يقول الناقد أحمد زنيبر:
"
التابوت" عنوان يتألف من كلمة واحدة معرفة تحيل مباشرة إلى فضاء له علاقة وطيدة بالمكان يمنح للقارئ المتلقي افتراضات وتأويلات أولية منها أن التابوت قد يكون من حديد أو خشب، كما أن من مواصفاته الضيق والانغلاق والظلمة. هو مكان قد تحرز فيه الأمتعة أو تودع فيه الجثث. والتابوت، بهذا المعنى أو ذاك، إشارة قوية إلى الموت والهلاك تارة، وإلى الحفظ والإخفاء تارة أخرى..
فما هي الدلالات القصصية التي رامت إليها الكاتبة وماذا عن القضايا والأسئلة الجوهرية التي تطرحها كتجربة فنية تواجه بها القارئ المفترض وتدعوه للتأمل وإعمال النظر على مستوى اللغة والأساليب وطرائق السرد المختلفة؟

يضيف:
تلتقط القصص تفاصيل الحياة اليومية والهامشية لتجعل منها مادة حكائية قابلة للوصف والتفسير والتعليق. ومن ثمة لا غرابة أن نجد موضوعات حكائية لصيقة بالذات الإنسانية في علاقتها بالأنا والآخر من جهة، وبالمحيط والعالم من حولها من جهة ثانية.
ما يلفت الانتباه أن الكاتبة قد نوعت في ضمائرها بين ضمير المتكلم المفرد، مذكرا ومؤنثا، وضمير الغائب، وضمير المخاطب، تنويع منحنا فرصة ولوج القصص من أبواب متعددة ومختلفة، ولم تقصرنا على دخولها من باب واحد.
لقد شكلت موضوعة الألم بروافده المختلفة (كالحزن واليتم والغربة، والضياع، والقهر والضجر، والظلم والحرمان وغيرها) مادة دسمة لمحاكمة الواقع وانتقاد سلوكيات أفراده، رجلا كان أم امرأة، وجماعة كسلطة حقيقية أو رمزية.
تدفعنا قصص المجموعة، بعد الاستمتاع ببنائها وطريقة تشكيلها، إلى التفكير بشكل أعمق في الشرط الإنساني. فالعنف والسادية تكتنف كل القصص، ولعل أبرز ما يدل على ذلك مجموعة من العناوين المعبرة على المنحى، ابتداء من العنوان الرئيس كعتبة معبرة عن الموت غير المبرر، إذ هو بفعل فاعل، ومرورا بالكثير من العناوين الداخلية المعبرة عن الشعور بالألم، منها "تأنيب" و"طفل يصرخ" و"العقاب" ص77 و"أوجاع غريبة" و"صراع" و"عتاب".
كلها قصص تجعلنا نعيش جوا كافكاويا سوداويا خانقا، كما لو أننا تلك الشخصية المعذبة التي تدخل إلى التابوت بالإكراه، ويغلق عليها الغطاء وهي حية؛ تجعلنا نشعر بآلامها، وبالرغبة في الانتفاض وكسر الغطاء بالتساؤل الامر الذي يجعل الإنسان شريرا يتلذذ بتعذيب أخيه الإنسان، كما في نص "مزاج" ، فالجموع في الساحة يعلو سرورها وهي تنزل العقاب متعدد الأشكال على شخص من دون معرفة سبب ذلك؛ التعذيب؛ صار بطل فرجة جماعية ينخرط فيها الكل، والويل لمن يسأل ، فسيكون مصيره الجر إلى الساحة للتنكيل به، وتعذيبه باستمرار؛ وهو مآل صديق السارد الذي طفح به الكيل فصرخ منددا.
هي الصرخة التي تدفع أعماقنا لطرد الشر من أنفسنا، ونخلص من عنفنا؛ فالحياة لن نستمر بالعنف، بل بالمحبة. ولذا، نجد بعض القصص تحمل في طياتها بارقة أمل في نهايتها، كما في نص البداية "الرهان" ؛ فالشخصية الرئيسة لم تبد مقاومة إلا بسخريتها التي مكنتها من تحقيق الانتصار على غريمتها الساعية إلى إشباع رغبتها السادية في إلحاق الألم بها. لقد اعترفت، في نهاية القصة بعجزها عن تحقيق الانتصار:

يقول جواد وادي عن هذه القصة:
في قصة "الرهان" وهي أولى قصص المجموعة توجه القاصة مقود الصراع مع حالة قلق أخرى تتميز بغيرة أنثوية تريد القاصة من خلالها تناول حالة إنسانية يتمازج فيها الفرح بالمودة والإحساس بالمرارة بحنو إنساني نقي، حالات تلتقطها القاصة بانتقالات من الحكي اللذيذ باضاءات أحيانا تكون همسا ولا يعيها إلا القارئ الفطن بتوظيفها ترميزات ذكية وأحيانا بوضوح شديد لتنتزع القارئ من حالات الذهول والحيرة إلى وضعه الطبيعي ليتواشج مع منحى القص وتراتبيته نزولا وصعودا ليعود هو بذاته مشاركا في حالة الإبداع لان القراءة عند (رولان بارت) هي حالة تماه وإبداع تؤثث فضاء النص.
(
لكن الارتياح المؤقت الذي يبدو على ملامحها المعبرة سرعان ما يتلاشى حين تنطلق ضحكتي مجلجلة طاردة عنها كل توقع بالانتصار).
وعن القصة الأخيرة الموسومة (عتاب) يقول الناقد نفسه: تسرد القصة مسراتها وأوجاععها وتفاصيلها حيث نلاحظ فيها تداخلا بين الشخوص ومنولوجات وانتقالات صادمة، تذكرنا برواية المسخ لكافكا حيث نجد ضمائر أل(أنا) وال(هو) وال(هي) ثم العودة ثانية في دورة استقرائية، معبرة ومحكمة بصياغات فنية وكان القاصة هنا واقفة أمام مرآة وهي تحدث نفسها مرة عن منال ومرة عن نفسهاـ ومرة عن الرجل حتى تجعل القارئ يشد أنفاسه لمتابعة هذه التفاصيل بدقة حتى لا يضيع في خضم التفاصيل والمتغيرات في الحكي:
أريد منحك قدرا يليق بك(الأنا- المخاطب)/ وأعجبه منظره، الرغوة البيضاء تغطي الجانب الأيسر من وجهه - الانتشاء يبدو واضحا على محياه (الرجل)/ أنت عزيزة علينا(منال)/ أحببت أن أحدثك عن التغيير...(الكاتبة) بتوظيف أفعال هي من باب التذكر وكان القاصة تستجمع ذكرياتها بحيوية الفعل والحركة في التواصل مع الآخر:
أنهيت/ تقومين/ أن تتأهبي/ تهيئين/ تجمعين/ تضعين/ تفتحين/ تعودين/ ترتدين/ تصممين/ لا تحبين/ تدخلين/ تتمرنين/ تبكرين/ تتوقعين/ تتأخرين/ تعملين/ تصلين/ تفكرين/ تجتهدين/ تتبعين/ تصلين/ تودين/ تنظرين/........
أن تكون كل هذه الأفعال وغيرها مجتمعة في نص قصصي واحد دليل على البناء المحكم في الحركة لان القاصة تريد أن تمنح النص فاعلية التحرك في اتجاهات مختلفة لتملا كل الفراغات التي قد تجعل من القص مفككا ولا روح فيه.
انه الانفتاح على مصراعيه ليصبح المبدع جزءا من الحدث مكانا وزمانا وشخوصا وتفاصيل أخرى.
ولم تنس المبدعة قضية المرأة ومعاناتها، إذ أفردت لها حيزا متمثلا في قصتين، قصة "طفل يصرخ" ، وقصة "الزائرة".
في القصة الأولى، تخاطب الساردة المرأة التي جف نبع ثديها، وتركت طفلها يصرخ من الجوع، ولا نتبين معاناتها إلا من خلال التفاصيل التي تتخلل القصة والتي تأتي على دفعات؛ إنه زوجها القاسي الذي هددها إن لم تجهض بهجرانها؛ هذه القسوة التي جعلت صدرها يغيض من الحليب، وقد سعت إلى تعويضه بحليب معلب، بيد أن الطفل كان يبغي أن يشعر بدفء صدره أمه، وقربها وحنانها. وهو ما سيتحقق في النهاية حيث تقول الساردة:
ذراعاك يحيطان بطفلك، لم تعد صرخاته عالية، تضعينه في حضنك، مسكين صدرك الناهد، ، وتضعين حلمتك في فمه، يصمت الصراخ، ويد رقيقة حانية تحيط بك، لتزيل عنك الهموم، وتبعد الأحزان، وتصبحين قوية قادرة على النسيان.. ص54.
إنه نوع من التطهر بالحب الصافي الرقراق القادم من طهارة الطفل البريء، ليكسر جبروت الأب الطاغي، والهارب من تحمل مسؤولياته؛ مقابلة بين المرأة التي تميل إلى استمرارية الحياة، وبين الرجل الهادف إلى إيقافها.
أما القصة الثانية فترصد حياة الزوجة التي سكنتها الوساوس وقضت مضاجعها الغيرة وحرقة السؤال، فبح صوتها وامتصتها الأحداث والأوجاع الغريبة.
لقد تعددت وتنوعت شخوص المجموعة، جنسا وهوية ومكانة ووظيفة (طفل، طفلة، امرأة، رجل، شيخ، شرطي) وتفاوتت من حيث المهام التي أسندت لها حكائيا، ومن حيث الأفعال وردود الأفعال التي تبنتها تبعا للسياق والمقام. تقول الكاتبة في قصة (طفل يصرخ): "ثديك يابس، جفت به مياه الحب، وتركه ينبوع الحليب، وبقيت شجرة بلا ثمار، أيتها المخلوقة البلهاء، كيف يطاوعك قلبك الرؤوم، أن تتركي طفلك صارخا يئن، بلا توقف..".
كما تنوعت الأمكنة أيضا بحسب الشخوص (بيت، غرفة، مطبخ، شارع، سوق، ساحة). تقول كما في قصة (أم بديلة) مثلا: "الشوارع متشابهة، والأزقة تأخذك إلى دروب أخرى، وأنت في دوامة، إلى أين تولين وجهك؟ آذنت الشمس بالمغيب، وأوشك النهار أن يودعك، خرجت مسرعة من البيت بعد أن أسيئ إليك، لم تعتادي سماع تلك الكلمات الغاضبة المهينة، وأنت ابنة أبيك الوجيه المعروف..".
أما عنصر الزمان فتراوح بدوره بين الماضي والحاضر والمستقبل. وقد كان لعنصر "الذاكرة" كلحظة للاسترجاع تأثير كبير في تطور الحكاية، فبها تتغذى الشخوص لتعيش لحظاتها الراهنة انهزاما أو انتصارا، حرقة أو انتعاشا، تقول الساردة مثلا في قصة "تشابه واختلاف": "ما زالت الذكريات تؤلمك، تشجيك، وتسعدك معا، مشاعر متناقضة تعيشين بها، طوال حياتك، تتراءى أمامك المشاهد، وتتوالى معك الأحداث وأنت جالسة في مقعدك المعتاد، قرب النافذة، لا أحد قربك، يبادلك الحديث، أو تشاركينه لواعج النفس، وآلام الذكريات، أنت غريبة هنا، مهملة، يطالبونك باستمرار أن تعتني بهم، تنفذي رغباتهم، وأنت جندي مجهول، تعملين بصمت، لا أحد يكلف نفسه عناء سؤالك عن رغباتك..".

اننا نتفق مع ما قاله غريب عسقلاني:
صبيحة شبر لا تتعامل مع القصة القصيرة كحكاية محايدة أو كإخبار فني مبني على حبكة مسبوكة, وإنما هي تبني قصصها على مضامين مدروسة, وتحاول ان تفتح بوابات الأسئلة وتثير النقاش, وهي الكاتبة والمثقفة متعددة الاهتمامات والمشغولة بقضايا الوطن والمرأة والعدل في كل مكان. وكاتبتنا على وعي تام بتقنيات فن القصة القصيرة, لذلك نراها تميل إلى الراوي الأنا في كثير من القصص للإيهام بين الذاتي والجمعي, أو تأخذ موقف الراوي العليم الذي يقدم كل شيء بمقدار ويتوقف عند حدود طرح السؤال, وكناقد ركزنا على القصص التي تتناول هموم المرأة والتي غالبا ما تكون المرأة راويا أو مرويا عنها وهي القصص التي تفترس معظم مساحة مجموعة "التابوت", وهذا لا يقلل من أهمية بقية القصص.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*
صدرت عن دار كيان للنشر والتوزيع.
**
تم الاعتماد على ثلاثة مراجع بشكل أساس:
1_
مقال لجواد وادي، منشور بمنتدى النور.
2_
مقال للدكتور أحمد زنيبر، منشور بمجلة الحوار المتمدن.
3_
مقال لغريب عسقلاني، منشور بالمجلة الثقافية الجزائرية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* "
التابوت" هى المجموعة الرابعة للكاتبة العراقية صبيحة شبر.