كانت صورة الشاعر الفرنسي إيمي سيزار ابن المارتينيك معلقة على جدار غرفتي في مدينة إدلب في الشمال السوري في أواخر سبعينات القرن العشرين وأنا ما أزال في مرحلة الدراسة الثانوية، ترافق الصورة قصيدة طويلة تشبه المعلقات، يقول في مقطع منها: 

نحن الآن واقفان

 بلدي وأنا

 شعرنا للريح، ويداي الآن في قبضته الضخمة، والقوّة ليست فينا، لكنها فوقنا، في صوت يثقب الليل، والجلسات مثل اختراق دبور مريع، والصوت يقول إن أوروبا لقّمتنا الأكاذيب على مدى قرون ونفختنا بالأوبئة. 

نعم، هي قصيدة جديرة أن تكون معلقة إلى جانب المعلقات، نحن الآن واقفان، بلدي وأنا. يا لها من فكرة، أن يندمج البلد والفرد هذا الاندماج الأسطوري. أنت هنا أمام شخصية شعرية وإنسانية فذة، جراح الناس جراحها، وهموم القوم همومها، وهذا أعلى مراتب الذوبان في الوطنية الحقة.      

نُتابع القصيدة في قولها:

ذلك انه ليس حقيقيّا أن عمل الإنسان انتهى، وأنه لم يعد لنا ما نفعله في هذا العالم، وإننا نتطفّل على العالم، وأنه يكفي أن نكون في مستوى مسار العالم، غير أن عمل الإنسان بدأ للتّوّ. وعلى الإنسان أن يغزو كلّ محرّم وساكن في رؤيا حماسته، وليس هناك عرف يحتكر الجمال، والذكاء، والقوّة، وأن هناك مكاناً للجميع، ونحن نعرف الآن أن الشمس تدور حول كوكبنا مضيئة القطعة الصغيرة التي ثبّتتها إرادتنا وحدها، وأن كلّ نجمة تهوى من السماء هي وصيّتنا التي لا نهاية لها.

 كان إيمي سيزار قد كتب هذه القصيدة بعد أن غادر المدرسة العليا في باريس حيث كان يدرس ليعود إلى بلاده. وهي تحكي حكاية الصراع الدائر بين البلدان المستعْمَرَة والبلدان المستعْمِرَة. تصوِّر محنة الشعب الذي يعيش الفقر، والجهل بسبب الهيمنة الاستعمارية، وخلف كل هذا هناك الجرح المفتوح دائماً، جرح الاستعباد الذي أخضعت له الشعوب الأفريقية على مدى قرون مديدة.

  لقد شق الشاعر الفرنسي إيمي سيزار ابن المارتينيك طريقه إلى الشهرة من خلال مجلة "مدارات" في مطلع الأربعينات من القرن العشرين حيث نشر نصَّ قصيدة طويلة  اكتشفها رائد السوريالية الأوربية أندريه بروتون وهو في طريقه إلى الولايات المتحدة الأميركية فاراً من نظام فيشي في باريس، بعد أن احتل النازيون بلاده، فتحت باب الشعر على مصراعيه أمام الشاعر الشاب، ليحظى في الحين بتقدير العديد من كبار الشعراء لا في فرنسا فحسب، بل في جميع أنحاء العالم.

يقول أندريه بروتون في المقدمة المهمة التي كتبها في نيويورك عام 1943 لديوان إيمي سيزار الأول "كراس العودة إلى أرض الوطن": 

هي مصادفة سعيدة حيث كنتُ في دكان لشراء شريط شعر لابنتي، تصفّحت منشورًا معروضًا في الدكّان حيث اشتريت الشّريط، فكان العدد الأوّل الذي صدر في عاصمة المارتينيك "فور دي فرانس" لمجلّة "مدارات" بدأتُ قراءة المجلّة بحذر شديد لم أصدق عينيّ، فما يُقال هنا هو ما يجب أن يُقال، تمزقت كل تلك الحُجب البغيضة التي تحجب الحقيقة، تشتَّت كلّ ذلك الكذب، كل ذلك الاحتقار سقط مزقاً. اسم من كان يتكلّم: إيمي سيزار. 

الدهشة التي اعترت رائد السوريالية الأوربية الفرنسي أندريه بروتون من قراءة كلمات إيمي سيزار أول مرة في مجلّة "مدارات" لها ما يبررها، فأنت أمام كلمات تهزُّ الوجدان هزَّاً عنيفاً، وتترك هذا الوجدان في بوتقة رهيبة من الخجل الإنساني الذي يدفع نحو تساؤل مقلق وعميق: ماذا فعلنا بهؤلاء البشر، وهل ما فعلناه بهم له ما يبرره، يا الله كم ظلمناهم، ها هم أمامنا بشراً سوياً، لهم ما لنا وعليهم ما علينا.   

يقول أندري بروتون:

 يبدو "كراس العودة إلى الوطن" وثيقة متفردة غير قابلة للاستبدال. العنوان بمفرده -وإن محونا القصيدة- يهدف إلى وضعنا في قلب الصراع الأكثر حساسية بالنسبة إلى الكاتب، الصراع الذي يُعد تجاوزه حياتيًّا بالنسبة إليه. فواقعيَّاً، كُتبت القصيدة في باريس بعد أن غادر المدرسة العليا وهو يستعد للعودة إلى المارتينيك. الوطن الأم، نعم، كيف يمكن مقاومة نداء هذه الجزيرة، كيف لا نستسلم لإغراء سماها، لتموجات حورياتها، لكلماتها التي تفيض دلالاً. لكن، فجأة ينتصر الظل: يجب أن نكون مكان إيمي سيزار لندرك إلى أي مدى كانت هذه القفزة وعرة. خلف هذه المجزرة يوجد بؤس الشعب الاستعماري، واستغلاله الوقح بواسطة حفنة من الطفيليين الذين يتحدون حتى قوانين البلاد التي ينتسبون إليها ولا يحسون بأي حرج من أن يكونوا عارًا عليها، يوجد خضوع هذا الشعب الذي يقف ضده أنه ظل دومًا بعيدًا منثوراً على البحر. خلف كل هذا، توجد، على مسافة أجيال قليلة، العبودية، وهكذا ينفتح الجرح من جديد، ينفتح على كل عظمة إفريقيا الضائعة، وذكريات الأسلاف عن المعاملات الوحشية التي تلقوها، وعي حاد بإنكار مطلق للعدالة كانت شعوب بأكملها ضحية له. شعوب بأكملها ينتمي إليها ذلك الذي سيسافر، غنيَّاً بكل ما يمكن للبِيض أن يعلموه. 

في زيارات الأصدقاء إلى غرفتي المعلق على أحد حيطانها صورة ذلك الشاعر الأسود، كانوا يسألون من يكون هذا الشاعر الذي يشبه شاعرنا عنترة العبسي كما صورته السينما العربية في أفلامها؟ كنت قد نسيت اسم المجلة التي أخذت منها صورة الشاعر إيمي سيزار وقصيدته المترجمة للعربي، فقط حفظت أنه من جزر المارتينيك تلك المستعمرة الفرنسية في الكاريبي، وبأنه شاعر شيوعي، لذلك حظيت صورته بمطرح على جدار غرفتي.   

عرض مقالات: