لا يمكن الولوج الى المسرح التحريضي في العراق من دون المرور بذكر اسم الشاعر والاديب واستاذ اللغة العربية د. محمد مهدي البصير (1895 - 1974) حيث سمي بشاعر ثورة العشرين وخطيبها المفوه وقارنه الكثيرون بـ (ميرابو) خطيب الثورة الفرنسية.
وكان موقفه الوطني قبل وعند تأسيس الدولة العراقية اذ اشعل فتيل الحماس والوهج الثوري في وجدان الثوار ورددت الجماهير اشعاره التحريضية ودعوته للثورة ونيل الاستقلال، وكتب البصير في ريادة وسبق مسرحي في باب المسرحية التحريضية مسرحيتين من وحي نضال شعبنا ضد الاستعمار الكولنيالي في ثورة العشرين وتداعياتها التي ألقت بظلالها الحادة واجبرت الإنكليز المحتلين على إعادة توجيه بوصلة التعاطي مع موضوع الاستقلال في العراق والاتيان بحكومة وطنية مستقلة لحكمه وتقويض مبدأ الانتداب المقيت، ثورة العشرين التي تغذت معنويا وعاطفيا على اشعار وخطب الحبوبي والجواهري والبصير وغيرهم مما أثر على سرعة استجابة الجماهير للثورة بوصفها سابقة لحركات التحرر في المنطقة العربية..
وفي كتابه القيم “محمد مهدي البصير رائد المسرح التحريضي في العراق” يشير د. علي الربيعي الى أهمية مسرح البصير في التصدي والتفاعل مع موضوع ثورة العشرين وتجلياتها الاحتجاجية اذ الف البصير مسرحيتين بهذا الصدد الأولى بعنوان “ وفود النعمان على كسرى انو شروان” والثانية بعنوان “ دولة الدخلاء” ويذكر الربيعي ان المسرحية الأولى ظهرت عام 1920 على مسرح سينما اولمبيا في بغداد حيث لم تكن هنالك قاعات متخصصة بالعروض المسرحية، وتشير الى دفاع النعمان عن حقوق العرب في حضرة كسرى ملك الفرس بوصفه جاء محتلا لا محررا في تناص واستعارة وغمز لعبارة الجنرال مود الشهيرة: “ اننا جئنا محررين لا فاتحين”. ولم يذهب البصير في معالجته لموضوع الثورة دراميا الى المباشرة او الخطابية او الزعيق السياسي انما موضوعا تاريخيا وحكاية من التراث واسقط عليها رؤيته لثورة العشرين والتحرر من المحتل مفجرا الجوانب القومية والعروبية الاحتجاجية الراضة ما قبل الإسلام لدى العشائر العراقية في لحظة الثورة حينها، فالبصير لم ينطلق من منطلق ديني ضيق انما من منطلق قومي واممي أوسع في التحريض..
وفي “دولة الدخلاء” التي كتبت عام 1925 لم يثبت انها قدمت على خشبة المسرح، وقال عنها كاتبها (البصير) : “عروض هذه الرواية قبل كل شيء تنبيه الأفكار الى ما نشأ وينشأ عاجلا ام آجلا من الويلات والمصائب عن تكالب الزعماء على منافعهم الذاتية الخسيسة واشراك الدخلاء في مصالح الوطن وخبراته كأنهم من ابناءه”. ويبدو ان المسرحية قد منعت من قبل السلطات حينها اذ لا يوجد لها (بروشور) عرض او اعلان في الصحف او إشارات في كتب الرواد التوثيقية او النقدية لما حوته المسرحية من نقد لاذع للسلطة وفيها استشراف وقراءة لحياة وظواهر ما بعد ثورة العشرين من منظور وطني ينظر بريبة وشك للاجنبي ووجوده في مصادر القرار السياسي الداخلي ويشير أيضا الى المأجورين والعملاء وشذاذ الآفاق من بعض السياسيين الذين يعيشون ازدواجية ولائهم للسلطة العثمانية السابقة واذعانهم للانكليز وعقدهم للاحلاف والصفقات المريبة معهم.. حقيقة ان اهم ما يميز مسرحيات (البصير) التحريضية هي قوة السبك اللغوي والالفاظ العربية المنتقاة بعناية فائقة فهو الأستاذ الضليع والعارف باللغة وبلاغتها واسرارها وطعم مسرحياته ببعض الاشعار التحريضية والحماسية التي الهبت قاعات العرض المسرحي وجماهيرها آنذاك.. وكان حاذقا في فهمه للنوع المسرحي وصنعة الحوار فهو لم يكتب مسرحيات شعرية كما فعل احمد شوقي وهو القادر على ذلك والنابغ فيه، انما جعل مسرحياته متنوعة في انساقها اللغوية والشكلية نثرا وشعرا غايته في ذلك لكي لا يذهب المؤدون نحو الروح الغنائية للشعر وايقاعه الموزون مما يحدث الرتابة في الأداء وحتى لا يتغافلوا عن الجوانب الادراكية والعقلية التي يتيحها الحوار نثرا..
وهناك مسرحيات تحريضية تأثرت بالاطر الفكرية والجمالية لمسرح (البصير) منها مسرحية “وحيدة” لـ موسى الشابندر وهو وزير خارجية العراق في بدايات العهد الملكي كتبها عام 1929 وتعد من انضج المسرحيات التحريضية ووحيدة اشبه بدراما الاجتماعية القرينة بمسرحيات الكسندر ديماس الابن واستطاع المؤلف ان يضع علاقة الحب بين قوى الشر الكاسحة وقوى الخير الضعيفة في مجتمع متأخر ورجعي، حيث يتغلب الشر على الخير وفي محورها الثاني تحرض على الوقوف ضد الاحتلالين العثماني والإنكليزي، وتحرض أيضا على تغيير المجتمع المتخلف وعاداته البالية الى مجتمع افضل، قدمت المسرحية كأول انتاج للفرقة القومية للتمثيل بعد تأسيسها وعرضت في 10/ 4/ 1969 بإخراج محمد القيسي وفخري الزبيدي وتمثيل فاطمة الربيعي وعزيز عبد الصاحب وقاسم الملاك وآخرون.