لم تكن الظروف التي عاشها رسل الادب من امثال لورنس وفرجيينا وولف وريمارك وزفايج وهيرمان هيسه واستورياس وبورشرت واخرين، توفر لهم مساحة من الحرية، وابداء الرأي او عرض وجهات النظر، فقد سبقت مرحلة التطلعات الاولى في القرن العشرين محنة حساسة، انتشرت فيها انواع من الاوبئة السياسية بشكل واسع في المجال الاجتماعي والادبي والفني على السواء، وواجه رسل الادب سلوكا شاذا في المعيار الاخلاقي، فشكلت رواية – كل شيء هادىء على الجبهة الغربية لريمارك عائقا حسب توصيفات الانظمة السياسية امام الروح الوطنية، على الرغم من أنها قد حققت نجاحاً ملحوظا بنسب عالية، فبعد ثمانية عشر شهرا من صدورها بيع من الرواية مليونان ونصف المليون نسخةٍ، وبأكثر من عشرين لغة، وهذا يعكس وجهة نظر مغايرة، حيث العالم عندما يكون مبتهجا ببلوغ ابن له هذا السمو الادبي وتلك الرفعة، فلابد من أن تكرمه شعوب العالم اجمع، فقد وضع مصيرها الانساني نصب عينيه، ولم يساوم على ذلك المصير، بل قدم مثاله الادبي بروح باسلة للدفاع عن ذلك المصير، ورفض ان تستهلكه الحروب بحجج واهية، لكن هتلر شعر بقلق من هذه الرواية، والامر صراحة مضحك، فبدلا من خوفه من دول اوربا التي تترصده، خاف وارتعب من الرواية، والتي اصبحت كيانا يثير المخاوف، فجعل هتلر مصير تلك الرواية مع الكتب التي منعت في ألمانيا النازية من الفترة 1933الى عام1945، وأحرقت تلك الكتب في احتفالاتٍ نازية بهيجة، كما سحبت الجنسية من ريمارك عام 1938، فهرب واضطر للعيش في سويسرا.
لا نحتاج الى تعبير ازاء حرق رواية من قبل نظام عاتي وشرس عسكريا، وتحسب له دول اوربا المخالفة لنظامه الف حساب، واي تفسير يمكن أن يكون فيها الامر مقبولا، وحرق كائن ادبي مكتوب هو عملية قتل نفسي لروح المؤلف، ولكن لا تعلم السلطات من ان تلك الروح لا تفنى ابدا، بل حتى لو سكت المؤلف وانقطع عن التواصل، تبقى تلك الروح بين ثنايا المادة المكتوبة مدوية، واذا احرقت كتاب فهي لا تحرق ولا تمس بأذى، فهي هنا قد تحولت الى ضمير جمعي، بعد ان كانت مثالا فرديا لكيان المؤلف، وقد تكون امة تلك الروح، فروح ايفوندرتش في رواية – جسر على نهر درينا – قد تحولت الى امة كاملة، فقد كانت صوت الشعب اليوغسلافي، واي معنى هنا تحققه الرواية، و قد اضحت ذلك الضمير الحي.
أن تحرق سياقات اداة السطلة كتابا، او تقوم بمنع نشر كتب ، او اي سياق تتخذ من شانه سجن المعنى الادبي، فإنها ستفشل بكل تأكيد، وسوف تزداد حماقة وعنفا، فتقوم بمحاربة المؤلف بأعنف واشد الوسائل الاستبدادية، عن طريق قتل الروح الجوانية في كيان المؤلف، بوصفها القضية و المعنى الخلاق، ولولاها لكان المؤلف اسير ذاكرته اجمالا، وهي الروح الحية في بلاغتها وان اي عنف مادي يمارس ضد معنى ادبي تكون نتائجه مخيبة ، فالمعنى الادبي لا يمكن استهدافه، وتلك الامور قد علقت في التاريخ البشري، وبقيت كسياقات عدوانية.. فأي سياسة لاحقة لابد ان تنقض كسابقتها، وتهدمها وتهدف الى محو ذكرها، وقد عاش لورنس وريمارك وفرجيينا وولف وزفايج واستورياس وماركيز وبورشرت وغيرهم ..
ان ذلك السلوك العدواني استهدف الادباء، وأثر على سلوكهم بنسب متفاوتة، فها هو لورنس حرا وخالدا عبر معطياته الادبية المعتبرة، وتلاشت الرأسمالية الصناعية، فجاء السياق الذي يضربها في الصميم ويهد كيانها، لكن كتب لورنس تعاد طبعاتها، وكتب ريمارك التي اضرمت فيها النار اعيد طبعها بلغات عدة، ولم تتمكن الرأسمالية الصناعية من اعادة انتاج نفسها من جديد .

عرض مقالات: