«ان تاريخ كل مجتمع الى يومنا هذا لم يكن سوى تاريخ الصراع بين الطبقات. الحر والعبد، النبيل والعامي، الإقطاعي والقن، المعلم والصانع، أي باختصار المضطهِدون والمضطهَدون، كانوا في تعارض دائم، وكانت بينهم حرب مستمرة تارة ظاهرة وتارة مستترة، حرب كانت تنتهي دائما اما بانقلاب ثوري يشمل المجتمع بأسره وأما بانهيار الطبقتين المتصارعتين معا» (البيان الشيوعي).
«منذ ما يقرب من أربعين عاما، أكدنا على الصراع الطبقي باعتباره القوة الدافعة المباشرة للتاريخ، ولا سيما الصراع الطبقي بين البرجوازية والبروليتاريا باعتباره الرافعة الكبرى للثورة الاجتماعية الحديثة ... لقد صغنا صرخة المعركة صراحة: يجب ان يكون تحريرالطبقة العاملة من صنع الطبقة العاملة بالذات». (رسالة تعميم الى أوغست بيبل وولهلم ليبكنخت وولهلم براكه وغيرهم – 17/18 ايلول 1879).
خامسا
هناك إذن مشكلة داخل الماركسية: كيف ننتقل من هنا، الرأسمالية المنقسمة طبقيا والمزدحمة بالمنافسة، إلى هناك، اكتشاف وصنع شكل من أشكال التنظيم السياسي الذي يمكن أن يمكّن البشرية من بدء العمل على إنشاء كومنولث تعاوني جديد؟ بالنسبة لماركس وإنجلز، قدمت كومونة باريس عام 1871 بعض الدلائل ذات الأهمية الحيوية لما قد يبدو عليه مثل هذا الشكل من التنظيم السياسي، لا سيما في تطوره القصير للشكل الأكثر اكتمالا للديمقراطية المباشرة. كتب إنجلز أنه إذا أراد أي شخص أن يعرف كيف تبدو دكتاتورية البروليتاريا، فعليه أن ينظر إلى كومونة باريس (مقدمة: الحرب الأهلية في فرنسا).
ولكن لا يزال هناك السؤال الكبير: كيف نصل إلى هناك؟ عرض ماركس في كتابه “بؤس الفلسفة” إجابة مجازية: يجب أن تصبح الطبقة العاملة بصفتها “طبقة في مواجهة رأس المال” “طبقة لصالح نفسها” [أو طبقة في حد ذاتها وهو التعبير الذي اوجده نيوكلاي بوخارين]. لكن هذه الإجابة لا توضح لنا ما تتضمنه هذه الصيرورة من عمليات سياسية.
سادسا
أود أن أقترح أن بداية حل المعضلة تكمن في التعامل بجدية مع إحدى السمات المميزة لإجراءات ماركس النظرية. وأعني التمييز الذي يرسمه - باستخدام تراكيب لفظية مختلفة في سياقات مختلفة - بين “الأساس والبنية الفوقية”، “الجوهر والمظهر”، “التجريدي والملموس”، “الباطني والظاهري”، إلخ. والمنطق الذي يحكم هذه الإجراءات هو أن هناك “مستويات تحليل” مميزة يكون الانتقال بينها ضروريا لفهم تعقيدات العلاقات والأنشطة الاجتماعية الفعلية. بكلمة أخرى ان التركيز فقط على “الجزئي”، المحلي والآني، يعني تجاهل الطريقة التي يرتبط بها مع العلاقات المجتمعية الأكبر؛ التركيز فقط على “الكلي”، يعني إهمال نشاط الأفراد والجماعات التي تقوم بإعادة إنتاج وتحويل هذه العلاقات المجتمعية.
سابعا
لو تركنا التجريد لننتقل الى الواقع، لمعاينة الأشكال التي يناضل بها الناس، سنجد أن التاريخ ليس فقط صراع طبقي، بل ان كل الصراع الطبقي هو تاريخ. في هذا المستوى – الواقع - تبدو الشخصيات وقد اكتست بلحم ودم، والتحدث والتفكير. أنها الآن موجودة في أزمنة وأماكن حقيقية، وتتحدث لغات محددة. تاريخها هو نتاج النضالات التاريخية الفعلية، والعمليات “المتراكمة والمتفاوتة” التي نشأ من خلالها نمط الإنتاج الرأسمالي، وتطور، وانتشر في جميع أنحاء العالم، مغرقا البشرية جمعاء في آثامه وأزماته. ويتضمن هذا التاريخ العنف الفظ الذي فُرضت به علاقات الإنتاج الرأسمالية، وأشكال الملكية المرتبطة بها - وما زالت تفرض وتمدد - والأشكال المختلفة للحكم التي تبنتها الطبقات المهيمنة كشرط لاستغلالها المستمر لمن هم تحتهم. ، ولكن أيضا الطرق متعددة الأشكال التي تعلم بها أولئك الخاضعون لهذه الأشكال من الحكم كيفية “التأقلم” والمقاومة.
يجب أن نتذكر أن الاستغلال والمنافسة هما الشكلان اللذان يتجلى فيهما التعاون الاجتماعي والاعتماد المتبادل داخل الرأسمالية. إذا كان يجب على المستغَلين أن يتعلموا التأقلم مع حكامهم ومقاومتهم في آن معا، كذلك يجب على الحكام أيضا التكيف مع من يحكمونهم.
ما أسماه غرامشي “الهيمنة” يعتمد على مزيج من “القوة والقبول”. وتجربة التاريخ تثبت ان الحكام والأنظمة التي تعتمد كثيرًا على القوة فقط قصيرة العمر. إن تاريخ الصراع الطبقي ليس مجرد تاريخ صدامات عنيفة بين قوى متعارضة، بل هو تاريخ التغلغل والهيمنة المتبادلة بين هذه القوى المتعارضة. وفي بعض الأحيان، وربما لفترات طويلة جدا، يمكن أن تتبلور أشكال من “الهدنة” النسبية للتفاعلات الاجتماعية لتبدو أنماط تفاعل مستقرة تمامًا، يزعجها بين حين وآخر صراعات محلية وخاصة، ولكن يمكن أن تزدهر فيها صور الاستقرار النسبي. ومع ذلك، فإن ديناميكية الرأسمالية نفسها من شأنها دائمًا أن تزعج مثل هذه “الهدنات” وتضع شبكة العلاقات بأكملها في حالة غليان وصراع مرة أخرى.
يبدو إذن، أن هناك بناءً نظريا أساسيا في قلب الماركسية، يتضمن الطريقة التي تكون فيها الذات الفاعلة (البشر) والبنية الإجتماعية بمثابة قطبين ديالكتيكيين لوحدة مستمرة ومتطورة. البشر هم المبدعون النشطون لتاريخهم، ولكن ليس، كما يعلق ماركس، في ظل ظروف من اختيارهم. فهم بالضرورة يدخلون في علاقات اجتماعية مستقلة عن إرادتهم (المقدمة، مساهمة في نقد الإقتصاد السياسي)، والتي هي في حد ذاتها نتاج نشاط سابق. هذه العلاقات الاجتماعية لها “خصائصها الناشئة” الخاصة بها، وهي مستقلة عن الأفراد الذين تتكون منهم، وهي تتعايش على عدة مستويات، من “أنماط الإنتاج” التاريخية إلى العلاقات المباشرة والمحلية للأسرة، والجيران، ومكان العمل، إلخ.
وطالما أن الأفراد والجماعات الذين يقومون بمختلف الأنشطة و”يعيشونها” فعليا، فهم مسؤولون - باعتبارهم كائنات حية تؤثر وتتأثر بالبيئة المحيطة – عن اكتشاف ما الذي يعيقهم في هذه البيئة (ظروف الانتاج) من تطوير انفسهم. وفي سعيهم لحل المشكلات التي يواجهونها، فإنهم يتصرفون بطرق من شأنها تعطيل الأنماط القائمة، وربما إعادة تشكيل العلاقات الاجتماعية عن طريق إحداث التغيير الشامل في ظروف معيشتهم (ظروف الانتاج).