رغم التقدم الهائل الذي أنجزته النساء على طريق التحرر بمعاونة نزيهة من القوة الاجتماعية التقدمية جنبا الي جنب المفكرين من اجيال متعاقبة الذين اخذوا علي عاتقهم مسئولية بلورة وتطوير الدفاع عن التحرر الانساني بعامة- أقول رغم كل هذا فلاتزال قضية تحرر النساء من قيود العالم القديم عالقة ومعقدة. ولاتزال الشكوك قائمة في قدرة النساء علي انجاز بعض الأعمال التي صنفها الوعي السائد باعتبارها ذكورية فحسب.

ولعل اخطر ما في هذه المسألة ان يكون وعي النساء انفسهن الذي هو غالبا اكثر ذكورية من وعي الرجال.

وقد انشغل علم النفس بهذه المسألة، ونتجت عن هذا الانشغال دراسات مهمة وعميقة اثرت المكتبة الانسانية، وفتحت الافاق أمام ملايين النساء الساعيات للتحرر من قيود العالم القديم ليعرفن مواقع القوة والضعف في تجربتهن من اجل التحرر بدءا من وعيهن الذاتي.

وعلى مدار السنين وفي القرن العشرين علي نحو خاص وصل كفاح النساء من أجل التحرر الي مواقع متقدمة حصلن فيها، بجهدهن ودعم القوي التقدمية والمستنيرة، على مكاسب كبيرة حين انخرطن في التعليم والعمل, وبرزت من بينهن رموز وقائدات في الكفاح الوطني من أجل التحرر من الاستعمار والتخلف والافكار القديمة التي غالبا ما كان النظر بشك واستخفاف لقدرات النساء في القلب منها.

ولأن التقدم الانساني كان ولايزال عنصرا ثابتا ودائم التحقق رغم العثرات والانتكاسات وقد حمل هذا التقدم طموحات النساء ودفع بها الي الامام بمساندة نزيهة من القوى التقدمية من الرجال الذين رأوا استحالة دوام أى تقدم للمجتمع مع اقصاء النساء.

وواصلت النساء مسيرة تحررهن عبر الانجاز لاعبر الكلمات, وسجلت نساء مرموقات في كل ميادين الفكر والعمل مآثر لا يستطيع احد تجاهلها.

ورغم كل هذا التقدم في ميادين الفكر والعمل, لاتزال هناك قوى ذات نفوذ في كل المجتمعات الانسانية بدرجات متفاوتة تنظر بشك إلى قدرات النساء, وتسعي الي حجب فرص التقدم عنهن في مجالات كثيرة بدعاوي دينية وثقافية طالما وضعت النساء في مرتبة أدني.

ولم يقف الفكر الانساني التقدمي مكتوف اليدين امام هذه الوضعية المجحفة، خاصة بعد أن اصبحت حقوق الانسان وفيها حقوق النساء مكونا اصيلا في مشروع التحرر برمته.

ومع ذلك استطاعت القوي الرجعية والمحافظة، وباستخدام الدين على نحو خاص مراكمة أدبيات ترتكز اساسا علي دونية النساء, ليصبح هذا الموضوع مكونا اساسيا في منظومة الفكر الرجعي تتوارثه الاجيال، ولم ينج من تأثيره القوي حتى بعض الرجال المستنيرين. وبتفكيك هذا الفكر سعيا للوصول الي جذوره سوف يتبين لنا كم انه راسخ الاركان في الديانات والفلسفات التي شاعت وتجذرت في نفوس وقلوب الجماهير البسيطة. وأخطر ما في هذه الظاهرة انها ضربت وعي غالبية النساء حتي المتعلمات منهن رغم كل ما انجزته من تقدم في ميدان الفكر والعمل وحتي الحياة الخاصة، واصبح على النساء ان يكافحن طويلا وهن في حالة دفاع دائمة عن النفس امام الهجمات التي تشكك في قدراتهن.

وغني عن البيان ان هذه الهجمات استندت الى الدين والفلسفة وتاريخ الحضارة الانسانية لتستمد منه القوة والقدرة على الاستمرار.

ولأن التاريخ ليس ساكنا فقد امتلأ بأشكال متنوعة لكفاح النساء من اجل انسانيتهن قبل اي شيء.

وكما علمتنا التجربة وتاريخ الافكار فإن ابطأ أشكال التغيير هو ذلك الذي يتم في الوعي الانساني فمثل هذا التغيير هو مرهون بعوامل بالغة التنوع والتعقيد، ولا يمكن انجازه – من ثم- دون كفاح طويلن وفي سياق مجتمعي أوسع يكون الهدف الاساسي له هو تغيير المجتمع الى الافضل في اتجاه العدالة و المساواة والكرامة الانسانية.

ولا يجوز أن ننسي في هذا السياق ان نضال الشعوب التي كانت ضحية الاستعمار والاستغلال معا قد تواصل حتى بعد خروج الاستعمار من بلدانها من اجل المساواة و العدالة الاجتماعية.

واضاء الفكر الاشتراكي بأنواره الكاشفة ظلمات العالم القديم الذي كان قد تخلص بعد كفاح مرير وتضحيات هائلة من العبودية القديمة ليسقط بعد ذلك في العبودية العصرية لرأس المال. ولكن هذه المسيرة الطويلة للبشر عرفت انتصارات مجيدة تخلصت فيها البشرية من ادران قديمة تركت جروحا غائرة في النفوس والقلوب وكان استعمار البلدان القوية عسكريا للبلدان الضعيفة هو اعمق هذه الجروح, وما أن تخلصت البشرية من الاستعمار القديم إلا ووجدت نفسها امام استعمار جديد لا يعتمد على القوة العسكريةن انما على الاقتصاد والثقافة ومفردات الحضارة.

وابتكر المفكرون في هذا السياق مصطلح الاستعمار الثقافين وما يسمى الآن بسطوة القوي الناعمة.

واذا ما راجعنا تجارب الشعوب والبلدان التي حققت تقدما لافتا سوف نجد ذلك الحضور القوي والفعال للنساء إن في الفكر او في النضال العملي وصولا الي شئون الحياة اليوميةن وهو ما تفصح عنه كتابات النساء بأجلى اشكال التعبير.

ولاتزال الدراسات الاكاديمية المتخصصة شحيحة في تناول كتابات النساء, خاصة من هذه الزاوية فما احوجنا الي باحثات وباحثين متخصصين للتعامل مع هذا الموضوع اكاديميا ثم علي مستوي القراء العاديين.

ما أنا واثقة منه الان أن اي باحث او باحثة يبادر بالتعامل مع هذا الموضوع سوف يكتشف كنوزا مجهولة بوسعها ان تضيء جوانب خفية من تجربتنا الثقافية، فضلا عن انها سوف تشجع عشرات النساء الموهوبات على التغلب على شكوكهن وترددهن في التعبير عن انفسهن وعن رؤيتهن للعالم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

«الأهالي» – 21 ايلول 2022

عرض مقالات: