تشهد العديد من الدول الأوربية، لاسيما تلك التي تعاني من أزمات اقتصادية وتراجع في مكتسبات الرفاه الاجتماعي، من صعود مقلق لليمين المتطرف والشعبوي منه بشكل خاص. فبعد التنامي الكبير الذي حققه التجمع الوطني وحركة إسترداد في الانتخابات التشريعية والرئاسية، والفوز غير المتوقع لحزب ديمقراطيي السويد، ذي الجذور النازية، جاء الفوز الكبير لحزب أخوة أيطاليا، والذي كان يعتبر نفسه وريثاً لفاشية موسوليني، ليطرح بإلحاح تساؤلات مشروعة عن السبل التي على اليسار إتباعها، لمنع تكرار مأساة ثلاثينات القرن الماضي التي شهدت صعود النازية والفاشية، والعواقب الوخيمة التي دفعتها البشرية للخلاص من هاتين الحركتين، المعاديتين لحرية البشر وسعادتهم.

لقد أدت السياسات الاقتصادية لدول الإتحاد الأوربي، يمينية كانت حكوماتها أم من يسار الوسط، الى توسيع الفروق الطبقية وإنقاذ البنوك والتضحية بمكتسبات دولة الرفاه الاجتماعي. ويبدو ذلك جلياً في أوقات الأزمات، حيث يتم تضليل الناس بأن حل جميع المشكلات، ومن أبرزها غياب الأمن والتدهور الاقتصادي، إنما يكمن في المزيد من الخصخصة، وغالباً ما يؤدي إكتشاف الحقيقة الى تزايد الإنقسامات، وفقدان ثقة الناس بالنخب الحاكمة، وهو ما يشكل أرضية صالحة لقوى اليمين المتطرف لجذب الناخبين.

ولهذا ليس هناك من بديل حقيقي لهذه الحكومات، قادر على إيقاف اليمين الشعبوي، غير اليسار، الذي عليه أن يواصل تبني سياسات التضامن الاجتماعي وإنقاذ البيئة وإيقاف التغييرات المناخية. كما تقع عليه مسألة التعليل الفكري وبالتالي السياسي لإرتباط البطالة وتدهور الخدمات والخراب البيئي بالعولمة الرأسمالية المتوحشة والسياسات النيوليبرالية، مقابل قدرة قوى الديمقراطية والمساواة على طرح حلول عملية ومستدامة لتلك الأزمات، لاسيما في مواجهتها الصلدة للشركات متعددة الجنسيات والبيروقراطيين وجماعات الضغط.

دوماً معكم

ويشير العديد من المفكرين اليوم، الى أن أول الخطوات تكمن في تشخيص المشاكل الاجتماعية الملحة، التي تهم أوسع قطاعات السكان، ووضع حلول ملموسة ومقنعة لها، بعيداً عن الخوض المنهك في الاختلافات الأيديولوجية، أو اجترار الحديث عن قدرة اليسار على صياغة أبعاد المشكلة وتعريفها وتحديد أسبابها، وإستخدام المصطلحات والأسانيد النظرية لدعم وجهات نظره، فنجاح الشعبوية اليمينية يكمن في وضعها الأصبع على الجرح، حتى لو أفتقدت للعلاج المناسب.

كما ينبغي التخلي عن لوم الناس الذين يصوتون لليمين المتطرف، ووصفهم بضيق الأفق والقصور الأخلاقي وتدني الوعي، لأن وعيهم هذا طالما أُمتدح حين كانوا يصوتون وحتى الأمس القريب للشيوعيين واليساريين والديمقراطيين الاجتماعيين. ولهذا ينبغي إتباع العكس، أي تذكير الجميع، لاسيما الأجيال الجديدة، ببقاء اليسار الى جانبهم، حتى وإن لم يصوتوا له، وأن إختياراتهم السابقة هي التي نجحت في بناء دول، تتمتع بالحريات وبمستويات مناسبة من الرفاه الاجتماعي، وإن الحل يكمن في العودة الى تلك الخيارات، بعد أن تأتي ببرامج جديدة ومعاصرة.

فضح ديماغوغيتهم

وتدعو بعض الأراء الى أهمية إلزام اليمين واليمين المتطرف بما الزموا به أنفسهم، حين تبّنوا، وبديماغوجية واضحة، شعارات اليسار الخاصة بتحسين المستوى المعاشي للشغيلة وتخليص المجتمع مما تبقى من تمييز ضد النساء، وملاحقتهم بكل السبل لتنفيذ تلك الوعود، حتى يُّفتضح عجزهم عن تحقيقها، بسبب تناقضها مع أيديولوجيتهم ومصالحهم الطبقية. ولهذا يعتقد بعض اليساريين ان عليهم أن يدعوا هؤلاء يمرون، ليفتضح أمرهم، حين يتماهون مع مخرّبي المناخ والبيئة من الرأسماليين ومع الليبرالية الجديدة، التي تنذر بتحطيم المجتمع الانساني. ولكي يكون هذا المرور آمناً، لابد من بقاء اليسار متمسكاً بشعاراته في الحرية والعدالة والسلام والرقابة الشعبية على الاقتصاد والمجتمع والتفكير النقدي للظواهر والمعضلات والحلول، إضافة الى التخلي عن دور التابع الأمين لليبرالية الجديدة وعولمتها المتوحشة، والعودة للأقتصاد الصناعي بدل الخدمي، حيث أدى إنتقال المصانع الى خارج أوربا لتقليص دور العمال في الحياة الاقتصادية وتوسيع دور فئات المهمشين وبعض حواشي الطبقة الوسطى، والتي تمثل القاعدة الأصلد لليمين الشعبوي.

صيانة دولة الرفاه

وتشير بعض التقديرات الى أن توجه العديد من أحزاب يسار الوسط الحاكمة في بعض الدول الأوربية الى التنازل عن دولة الرفاه التي بنوها على مدى عقود، عبر خصخصة هذه الخدمات كالتقاعد والتعليم والصحة وتقليص نفوذ الحركات الاجتماعية والنقابات، قد الحق بإقتصاديات هذه البلدان خسائر كبيرة، مما أثار غضب قطاعات واسعة من الناس ودفعها للتخلي عن تأييد هذه الأحزاب، وأوقعها يأسها في حبال اليمين الشعبوي.

ويرى بعض اليساريين عدم صواب الدفاع عن المهاجرين والثقافات غير الأوربية، بإعتبارها أقليات في المجتمع، لأن في ذلك تناغم مع جوهر اطروحات اليمين التي تعتبر هؤلاء غرباء عن المجتمع الأوربي، بل على اليسار تبني مصالح هؤلاء كمواطنيين، بغض النظر عن الثقافة التي ينحدرون منها.

نقد ذاتي

ويتم التركيز أيضاً على عدم إدعاء العصمة اوالتشبث بالمواقف، حتى لو كانت سليمة تماماً، أو إنكار بعض الأخطاء التاريخية والأنية في تاريخ اليسار، مع التأكيد على ضرورة الدفاع عن جملة التضحيات الجسام التي رصّعت جبين هذا التاريخ، في مجرى النضال من اجل الحرية وحقوق الإنسان والديمقراطية والمساواة والتنمية والتقدم الفردي والمجتمعي.

ويبحث قطاع أخر من اليساريين، عن ما هو مشترك مع الليبراليين ويسار الوسط، ويدعو الى التركيز عليه في مواجهة اليمين الشعبوي، كالخشية من تدهور الحريات الفردية، وحرية التعبير، والفرص المتكافئة، نظرياً على الأقل، في المشاركة بالعمل العام، إضافة الى مهمة حماية البيئة ومواجهة الإغتراب والإحساس بالقلق من مستقبل مجهول، لاسيما في صفوف الشباب.

ويعطي بعض المفكرين أهمية كبيرة لأعتماد النتائج العلمية والإحصاءات والأرقام، في مواجهة اليمين الشعبوي، الذي نجح في كسب إهتمام الناخب، من خلالها ومن خلال رفض الناس للنخبة المتعفنة الجاثمة على صدر المؤسسات الدستورية.

ويحتل العمل على تنشيط ذاكرة الناس وتبصيرهم بالصور الأنسانية المشرقة التي ألهمت اليساريين الرواد، أهمية إستثنائية، فرغم عصر الرقمنة، تبقى الفنون والأداب ومختلف مجالات الإبداع، أدوات تحفيز للناس على إجتراح مآثر إنسانية، هي دوماً في تناقض تناحري مع هذا اليمين الشعبوي والتاريخ البشع لأسلافه.

عرض مقالات: