في كانون الاول 1967 ، وفي قرية دار بسر قرب بلدة كويسنجق في محافظة اربيل انعقد الكونفرس الثالث للحزب الشيوعي العراقي ، وقد حضره 57 مندوبا وأعضاء اللجنة المركزية . بلغت نسبة العمال منهم الثلث وكان 62% من المندوبين عرباً و 31% كرداً و 7% من الأقليات. استمر الكونفرنس 10 ايام ناقش فيها المندوبون القضايا الإساسية التي تواجه الحزب ومنها وحدته وتقييم سياسته ووضع برنامجه ونظامه الداخلي.

اقر الكونفرنس وثيقة تقييم سياسة الحزب من عام 1956 الى عام 1967 واعتبر السياسة التي رسمت في أب 1964 خاطئة وسماها بخط آب اليميني، وأدان الانشقاق واعتبر سياسة المنشقين متياسرة متطرفة. ويصف القيادي السابق في الحزب رحيم عجينة الكونفرنس بأنه كان هاماً جداً، فقد قام بمهام المؤتمر وجاء في اعقاب انشقاق 1967 وتبنى وثائق هامة واجرى انتخابات اللجنة المركزية. كما كان اول اجتماع واسع لكوادر الحزب بعد إنقلاب شباط . كانت النقاشات فيه حامية فكرية وسياسية وتنظيمية، وتوصل الى معالجة قضايا كثيرة، كإدانة الانشقاق وطرد القائمين به وإصدار وثيقة تقيم لسياسة الحزب، كما جرى تقييم خط آب والاضرار التي سببها، وقرر عقد المؤتمر الثاني للحزب، إضافة الى اقرار مشروع برنامج الحزب ونظامه الداخلي لتقديمه الى المؤتمر الثاني. ودقق الكونفرنس أساليب الكفاح، فرفض إسلوب الإنقلاب العسكري وطرح الانتفاضة الشعبية المسلحة المدعومة من القوات المسلحة بديلاً لها. ووافق الكونفرنس على عقد جبهة مع البعث اليساري شريطة ان يدين الجرائم المرتكبة بعد إنقلاب شباط 1963 وتم تسمية منظمة الاقليم  بلجنة اقليم كردستان للحزب الشيوعي العراقي.

وكان الكونفرنس فرصة لصراع الأفكار اليمينية واليسارية المتطرفة، بغية تحديد خطة الحزب التكتيكية (اساليب النضال) ومعالجة الاخطاء والتشويهات التي رافقت رسم سياسات الحزب، خصوصا ما يتعلق بدحض الافكار والاستنتاجات ذات الطابع الانعزالي اليساري والتي كانت تقلل من نضال الجماهير في تحقيق الانتصار الحاسم.

انتخب عزيز محمد سكرتيرا للحزب ولم يحصل ثلاثة أعضاء من اللجنة المركزية على العضوية في هذا الكونفرنس وهم عامر عبد الله وعبد السلام الناصري وصالح مهدي دكله، الذين اتهموا بالنهج اليميني.أما الفائزون فكانوا كل من عزيز محمد وكريم احمد الداود وعمر علي الشيخ وزكي خيري وثابت حبيب العاني وتوفيق احمد وارا خاجادور واحمد باني خيلاني وجاسم الحلوائي وستار خضير وباقر ابراهيم وشاكر محمود ومهدي عبد الكريم . كما انتخب الكونفرنس مرشحين للجنة المركزية هم بهاء الدين نوري وماجد عبد الرضا وسلمان يوسف بوكه(ابو عامل). اما المكتب السياسي فقد انتخب لعضويته عزيز محمد وكريم احمد وعمر علي الشيخ وزكي خيري وباقر ابراهيم كما اختير ثابت حبيب العاني مرشحا للمكتب السياسي.

إعتبرت القيادة المركزية الكونفرنس تدويراً لذات النهج والقيادة التي إختلفت معها. وإشتعلت المساجلات بين الطرفين، متخذة طابع التحدي، حيث إدعى كل طرف بأنه يمثل الحزب الشيوعي العراقي مما أضر بالحزب كثيراً وخدم توجهات خصومه وأعدائه من القوميين والبعثيين والسلطتين العارفية والبعثية.

تحسنت بعد الكونفرنس ظروف الحزب إثر توضيح خطه السياسي وتجدد خطابه، وعادت الجماهير الى سماع صوته وكلمته. الا أن المنشقين لم يصغوا لصوت العقل ويعودون الى التنظيم الحزبي ويعملون على تمتين وحدته وترك الانانية وروح الانتقام .

ويمكن هنا أن نشير الى ابرز القضايا التي كان الحزب يعاني منها في تلك الفترة:

  • بلبلة فكرية – سياسية، جراء عوامل ذاتية نبعت من ظروف الحزب الخاصة وعمقتها السياسات الخاطئة التي سار عليها، وأممية كانت تعاني منها الحركة الشيوعية العالمية.
  • ضعف في التنظيم الحزبي والاتصال بين المنظمات نتيجة الارهاب في شباط 1963
  • الارهاب المتواصل والمطاردة البوليسية .
  • شيوع روح المغامرة والتطرف والانتقام من قبل بعض اعضاء الحزب وكوادره.
  • الظروف العالمية وتاثير الحركات العالمية والجيفارية على الوضع في العراق والذي ادى الى تشكيل تكتلات ومجاميع تدعو الى الكفاح المسلح وبروز التروتسكية واليسار الجديد..الخ.
  • هزيمة 5 حزيران للجيوش العربية امام اسرائيل واحتلالها لاراضي جديدة ومنها اراضي فلسطينية وعربية وتزايد الدعوة الى تحرير فلسطين.
  • عدم الشعور بالمسؤولية تجاه الحزب ومنظماته ورفاقه الذين ضحوا من اجل وجوده وتطوره، حيث كان التعالي المتواصل هو الذي يحكم سلوك القيادة، وكان هناك تشبث فاضح بالمواقع الحزبية القيادية.

لقد جاء في خاتمة وثائق الكونفرنس الثالث، وفي مجال دحر الاتجاهات الانتهازية اليمينية واليسارية شرط لانتصار حزبنا مايلي:

(ان الخطر الرئيسي الذي يواجه الحزب، في الميدان الفكري هو الخطر اليميني، وان خطر الانعزالية "اليسارية" اصبح خطرا مباشرا في الحزب وهو يهدد بالتضخم والاستفحال اذا لم تجر مكافحته، ويعرقل ايضا تصفية الانحراف اليميني واجتثاث جذوره. ويرى الحزب في المهمات اللاحقة ، ان مهمة مواصلة وتشديد الكفاح ضد الانتهازية وضد الانحرافات اليمينية و اليسارية في حزبنا وفي حركة شعبنا الثورية، ترتبط ارتباطا وثيقا بصيانة وجود الحزب وصيانة استقلاله ونقاوته الايديولوجية ووحدته وتعزيز مكانته بين الطبقة العاملة وفي حركة الجماهير الثورية ورفع طاقته من اجل انجاز خططه الانية والاستراتيجية بنجاح. وترتبط بهذه المهمة ايضا ضرورة شن الكفاح بحزم ضد الميول التوفيقية والحلول الوسطية التي تسعى لتمويه وتمويع الحدود المبدئية للحزب، تحت واجهات عاطفية او نفعية، ولكنها تخدم بالنتيجة الاشكال الصريحة للانتهازية).

ميادين كفاحية

شارك العمال الشيوعيون والديمقراطيون في الانتخابات العمالية. وللاسف شارك الشيوعيون في كتلتين وتحالف كل منهما مع ائتلاف معين. جرت المنافسة  لثلاث قوائم، قائمة حزب البعث القائمة العمالية التقدمية ، قائمة نضال العمال وهي ائتلاف بين الشيوعيين وبعض القوميين وتراسها هاشم علي محسن وقائمة كفاح العمال التي تحالفت فيها القيادة المركزية مع الحركة الإشتراكية العربية. استطاعت قائمة الحزب الشيوعي الفوز النسبي بالرغم من الضغوط والتزوير والارهاب والتهديد. وكان دور الشيوعيين واضحا حيث تمت اعادة الصلات التنظيمية في فترة الهدوء النسبي في زمن عبد الرحمن عارف. ونشير الى ان قائمة نضال العمال حصلت على 400 صوت والقائمة الحكومية على 10 اصوات ولكن الحكومة الغت نتائج الانتخابات، وتم اعتقال عدد من قائمة نضال العمال في النجف، ومارست السلطة مختلف الابتزاز ضد العمال، وهكذا تم تزييف الانتخابات العمالية والادعاءات بالفوز بالتزكية لقائمة الحكومة.

توّج العمل في الميدان الطلابي بنصر كبير، حين استطاعت الحركة الطلابية فرض إجراء انتخابات مهنية عامة في ربيع العام 1967 إثر صدور قانون انتخابات تحت اسم “اتحاد طلبة الجامعة”. وكانت نتائجها  باهرة، بل ومفاجئة إلى حدود كبيرة حتى بالنسبة لنا، حيث فازت قوائم “اتحاد الطلبة العام” بنسبة 76 من المقاعد الانتخابية وحصلت على أكثر من 80% من الأصوات في جامعة بغداد.أما في جامعة البصرة فقد فاز اتحاد الطلبة بالمقاعد الانتخابية بنسبة 100% في حين حصل في جامعة الموصل على أكثر من 60% من المقاعد الانتخابية ونحو 75% من أصوات الناخبين. ولم يكن ذلك بمعزل عن ضغوطات رافقتها واعتداءات صاحبتها بما فيها تكسير بعض الصناديق الانتخابية، علماً بأنه تم إلغاء الانتخابات بعد يوم واحد من إعلان النتائج. وكتبت بعض الصحف الصادرة آنذاك تبريراً لإلغاء النتائج تقول: “أن القوى الشعوبية الحاقدة عادت ترفع رأسها من جديد”. وكانت “جريدة المنار” قد كتبت افتتاحية شديدة اللهجة علّقت فيها على نتائج الانتخابات الطلابية تحت عنوان “جرس الخطر يدقّ في سماء العراق”، وهكذا يمكن القول إن الانتخابات الطلابية كانت معركة وطنية كبرى بكل ما تعني هذه الكلمة من معنى.

وكان للشيوعيين النصيب الاكبر في الفوز في إنتخابات النقابات المهنية كالمعلمين والمهندسين وغيرهم رغم كل محاولات السلطة.

اما بخصوص النظام العارفي، فقد شكلت اكثر من حكومة حيث توالى على الحكم كل من طاهر يحيى وعبد الرحمن البزاز و ناجي طالب أعوام 1966 - 1968 . كان معظم المستوزرين من القوميين والرجعيين والعسكريين. وقد اشار الحزب الشيوعي العراقي الى تلك التغيرات، فعزى إقصاء البزاز عن الحكم لفعل عوامل وظروف مترابطة، يمكن تركيزها وتصنيفها بظرف موضوعي ناشئ عن سياسة البزاز نفسه وموقف الشعب والقوى الوطنية والقومية المعارضة، وعامل ذاتي ناشئ عن احتدام الصراع بين البزاز وحلفائه على الرغم من ايقافه القتال في كردستان وحلوله المبتوره او السطحية لبعض المشاكل لحل التناقضات الرئيسية المستحكمة بين الحكم والشعب.

كما انتقد الحزب سياسة الحكومة في ظرف تتفاقم فيه الاخطار الاستعمارية والصهيونية على حركة التحرر العربي، حيث كان الحاكمون يسلكون نهجا مشبوها خطرا، من شانه ان يخدم في الواقع اغراض تلك القوى.

وصف الحزب الشيوعي العراقي وزارة طاهر يحيى التي شكلت في تموز 1967 بأنها وزارة تجويع وارهاب واستسلام. وقالت طريق الشعب السرية،  صعد طاهر يحيى من جديد الى كرسي رئاسة الوزارة، وهو ليس جديدا من حيث مشاركته في الحكم ولهذا فهو لن يغير شيئأ من طبيعة هذا الحكم. وشنت حكومة يحيى ، حملة قمعية واسعة ضد جميع القوى العراقية وخاصة الحزب الشيوعي العراقي.

المصادر-

رحيم عجينة - الاختيار المتجدد اصدار 1998

وثائق الكونفرنس الثالث للحزب الشيوعي

عزيز سباهي - عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي ج 3

سيف القيسي – الحزب الشيوعي العراقي في عهد البكر 1968-1979

وثائق الحزب الشيوعي العراقي اعداد علي مهدي

عبد الحسين شعبان في الذكرى الاول لوفاة مهدي الحافظ مقال 2018

طريق الشعب عدد 4 تموز 1967

عرض مقالات: