بعد أغتيال (جلال ذياب) بأيام، كتبت مقال (مارتن لوثر كينغ في البصرة) لجذب الانتباه لعمل جلال وحلمه، وقد شكل المقال* صدمة للعديد من الناس، إذ لم يكن من السهل عليهم الاعتراف بتاريخ التمييز الموجه ضد المواطنين من أصول أفريقية. كما أتهمني البعض – بسبب الشعور بتبخيس الذات- بالمبالغة في اطلاقي لقب (مارتن لوثر كينغ) الزعيم الأميركي الشهير من أصول أفريقية، على ناشط عراقي متواضع من أصول أفريقية. وبالرغم من ذلك، فإن التسمية ظلت ملتصقة بجلال خلال الأعوام الماضية، وأعتمدها صحفيون شجعان كتبوا عن الراحل إنطلاقا من مقالي المذكور.
اعتقد إن التشابه بين (جلال) و(كينغ) لم يكن سطحيا، بالرغم من فارق زمني يبلغ 45 عاما فاصلا بين الاغتيالين، واختلاف السياق الاجتماعي والسياسي بين الولايات المتحدة والعراق. وقد جرى اغتيال كينغ وجلال في الشهر نفسه (نيسان)، ولإسباب سياسية تبعد شبهة السبب الجنائي المحض، وسرعان ما تحول جلال بعد مقتله الى رمز داخل مجتمع الإفروعراقيين. لكن ما يؤلمني بعد هذه السنوات، هو التفكير بإنني لو لم أكتب المقال، ربما، لكانت ذكرى (جلال ذياب) قد ذابت، وضاعت قصة نضاله في سبيل المساواة والعدالة دون أن يسمع بها أحد. اليس تجرع كأس النسيان خيارا مرا، يمكن أن يواجه كل منا؟
بعد الاغتيال بعام، كتبت مقالا في صحيفة “نيويورك تايمز” بمناسبة مرور عام على اغتيال جلال بعنوان (هل ينال السود في العراق العدالة؟) في محاولة للتعريف بمطالب مجتمع الأفروعراقيين على مستوى عالمي. ومع هوس الاعلام الدولي بإختزال تنوع البلاد بنزاع كردي عربي وكراهية سنية شيعية، أحدث المقال صدمة ضرورية لمجتمع دولي لم يسمع على الاطلاق بمجتمع أفروعراقي. وقد أصبح تقليدا سنويا أن أكتب مقالا في ذكرى اغتياله للتذكير بهذا المجتمع المنسي من جهة، والتأكيد على غياب نظام العدالة في العراق من جهة ثانية.

وقد جدد مقتل (جورج فلويد) بعث قصة هذا المجتمع مجددا في سياق جديد، بيّن إن حلم مارتن لوثر كينغ بالمساواة لم يستطع إن يجتث جذور العنصرية في بلدان أخرى راسخة في الديمقراطية، ودفعني لكتابة سلسلة مقالات جديدة في سياق مقارن قد يكون كفيلا بتشجيع المزيد من العراقيين على إنهاء التمييز العنصري ضد هذا المجتمع، وتنظيم النخب الثقافية والمدنية جهودها منهجيا، من أجل وضع حد لثقافة الإفلات من العقاب. فمنذ فوز (باراك أوباما) برئاسة الولايات المتحدة وحتى مقتل (جورج فلويد) عاشت ذكرى (مارتن لوثر كينغ البصرة) حية في ذهني، فأغتيال هذا الأب لأربعة أطفال منهم ثلاث بنات، ستظل دليلا على سيادة ثقافة الأفلات من العقاب، ونهاية حلم مجتمع كامل برصاصة غادرة.
أذكر أنني حين زرت جلال لأول مرة في مقر جمعية “أنصار الحرية الانسانية” تحدثنا عن خطاب “عندي حلم” المعروف لمارتن لوثر كينغ الذي ألقاه عند نصب لنكولن التذكاري في 28 أب 1963 أثناء مسيرة واشنطن للحرية، وتساءلت اذا كان جلال يحمل حلما مماثلا : رؤية مستقبل ينتهي فيه التمييز ضد السود، ويضع خاتمة لثورة الزنج التي أجهضت واستمرت عواقبها لقرون تحت الرماد. وللجواب على هذا السؤال أشار جلال الى ثلاث صور معلقة على الحائط : في الوسط كانت صورة (مارتن لوثر كينغ) تحيطها صورتان لباراك أوباما الذي كان قد فاز للتو بسباق الرئاسة الأميركية، وفهمت السعي النبيل لهذا الرجل الذي كان يبلغ من العمر ثلاث سنوات حين تم اغتيال كينغ في 4 نيسان 1968، ولم يتصور إن تأثير خطاب كينغ سوف يعبر الآلاف الأميال ليصنع حلمه الخاص، بعد أكثر من أربعة عقود. وعلى الرغم من إنه لم يكن يمتلك بلاغة كينغ، فقد كان يؤمن بإن حلم المساواة في خطاب “عندي حلم” قد تحقق أخيرا في اليوم الذي فاز فيه أوباما بالانتخابات الرئاسية في 20 كانون الثاني عام 2009، وإن هذا الحلم قد يتحقق يوما ما في العراق.
لم يتوفر لجلال ما توفر لكينغ الحائز على درجة الدكتوراه في الفلسفة من جامعة بوسطن، إذ لم يحز جلال على تعليم جامعي، وكان شخصا عمليا، ومستعدا للتعلم، وساعده تواضعه الجم في إن يبتعد عن الادعاءات الجوفاء والنرجسية التي تميز بعض أفراد النخب الثقافية والمدنية في العراق. صحيح إنه في سياق البصرة الخاص والسياق العراقي العام لم تنضج الظروف الى حد تبلور جسم مدني شبيه بـ” حركة الحريات المدنية” الاميركية، ويبدو مستحيلا لجلال ان يخطب- كما فعل كينغ- في 250 ألفاً من مناصري الحقوق المدنية الذين يتطلعون الى هدف إنهاء التمييز العنصري. لكن كانت حماسة جلال للتغيير صلبة مثل صخرة، إذ كان قادرا على إقناع اطفال العشوائيات بان يلتحقوا بالمدرسة، وإن يتعلم الشبان مهارات تضع حدا لبطالتهم المزمنة. وعلى الرغم من إنه حين نزل بي درجات مقر منظمته المتواضع لم يجد منبرا مماثلا لدرجات سلم نصب لنكولن التذكاري، التي حولتها كلمات كينغ الساحرة إلى منبر عظيم، لكنه كان يتحدث في كل ورشة أدعوه اليها في بغداد او البصرة بشجاعة ملفتة. كان يوقظ تاريخا مسكوتا عنه من التمييز، وثورة سوداء رابضة تحت الرماد تجعل الحاضرين يرفعون الأيادي مستنكرين، إذ لم تُولد بعد شجاعة الاعتراف لديهم، ولا القدرة على مواجهة الماضي وغربلة التراث، اللازم لكل عملية إصلاح شاملة.
كان جلال الذي ولد في الزبير ثوريا يريد تحرير مجتمعه من تراث القمع المترسب منذ قرون، فعندما وزع الخلفاء المسلمون في العصور الأموية والعباسية مقاطعات شاسعة على قادة الجيوش المحاربة التي غزت العالم في أقاصي الشرق والغرب، استخدم هؤلاء القادة “ذوي البشرة السوداء” في إصلاح الأراضي وزراعتها، حيث عمل عشرات الآلاف منهم في ظروف قاسية، انتهت بثورتهم أكثر من مرة، واستمرت أشهرها وهي المعروفة بثورة الزنج مدة 15 عاما (بين سنة 869 – 883 م). ورافق القمع الذي واجهته ثورة الزنج إجراءات تقويض تلك القوة السوداء، المتمردة على ما عُدّ آنذاك بمثابة تابو سياسي وديني، ألا وهو الخروج على سلطان خليفة المسلمين.
عاش أجداد جلال في مناطق المستنقعات في البصرة، معرضين للأوبئة الفتاكة في بيئة تتسم بالقسوة المناخية، وفضلا عن عملهم المرهق لم يكن طعامهم يكفي لمواجهة شروط العمل كعبيد، وكانت بنيتهم الاجتماعية مفككة بسبب عيشهم بعيدا عن أوطانهم الاصلية. وتراكمت قصصهم عبر القرون لتكشف عن ثقافة لم يتحرر من رواسبها مجتمع الأفروعراقيين حتى الوقت الراهن. كان جلال هو الرجل الذي أحيا كل هذا الماضي المستتر الذي أغفلته مناهجنا الدراسية وكتب التاريخ الرسمية، وربط بين الذاكرة الجريحة لماضي الأفروعراقيين مع وعود التحرر منها في عراق ما بعد الاحتلال الأميركي، وجذب الانتباه إلى قوة أخرى للتغيير، يسهم من خلالها الأفروعراقيين في إثراء تنوع العراق وتعدديته بحيويتهم المدهشة.
يذكر لي اخوه (أمين ذياب) قصة ذات دلالة على روحية الراحل، فقد كان في تسعينيات القرن الماضي يعمل في العقارات، وكان شاهدا على مستوى الفقر في مجتمعه، وحدث أن أطل عليه شاب صغير السن طالبا معونة مالية مقابل تنظيف مكتب العقار، وما كان من جلال الا ان منحه مبلغا من المال طالبا منه ان يسثمره في بيع اكياس النايلون مقابل تقاسم الارباح، وبعد ان نجح الشاب في عمله، طلب منه جلال الاحتفاظ بالمال الى ان يصبح مبلغا كافيا لتحصيل ربح مناسب، وبعد ان وصل الشاب الى هذه النتيجة بتشجيع من جلال، أقترح عليه الأخير الاستمرار بتطوير العمل من خلال شراء عربة نقل يدوية، مقابل الصفقة القديمة نفسها، وما كان من الشاب الا إتباع هذه الخطة التي نجحت بتحصيله رأس مال كاف لتقاسم ربح منصف للطرفين، وفي هذه اللحظة وهب جلال حصته للشاب قائلا أنك الان تستطيع الانطلاق للتخلص من الفقر نهائيا. أعتقد بأن مشاركة هذه القصة مهمة لإنها تبين طريقة تفكير جلال في محاولته لمساعدة أكبر عدد من الناس من خلال مشاريع خيرية وبناء قدراتهم تدريجيا لغرض زرع الثقة بالنفس على مستوى فردي وجماعي، فتدريبهم على مهن كالحلاقة والخياطة، وأصراره على تعليم الاطفال المهارات الاساسية وليس القراءة والكتابة فحسب،كانت مجرد خطوة في مشروع لإعادة بناء قدرات مجتمع بأكمله.
لم يكن من السهل أن تتحول خطوات جلال الى حراك ضد التمييز العنصري، دون استعادة صدى مطالب ثورة الزنج بالعدالة الاجتماعية، وربط نضال الثوار القدماء بالمطالب المعاصرة لأحفاد سلالتهم التي ما تزال تعيش في البصرة. وهنا تبدو أهمية فكرة تأسيس “حركة العراقيين الحرة” لتصبح أول إطار سياسي في الشرق الأوسط يعبّر عن ذوي البشرة السوداء، والتي كانت بحاجة إلى دماء جديدة للعمل من أجل فكرة إحياء هوية سوداء مختنقة تطلب التنفس.
في عام 2013 جرى إسكات الحلم الذي أيقظه جلال ذياب بالرصاص، فقد مثل تهديدا للهوية الإيديولوجية التي فرضها نظام محاصصي حزبي، قسرا على الناس، وأوحى بإمكانية الثورة على سلطة كاتمة للأنفاس تستثمر المقدس لقتل حلم الناس بالتغيير. لكن القوة التي تبعثها الذكرى لا يمكن إسكاتها طويلا، فبعد مرور سبع سنوات على اغتياله، أيقظ مقتل (جورج فلويد) قصة نضال (جلال ذياب) مجددا. وبدأ الوعي ينمو مجددا بإنه (مارتن لوثر كينغ) جديد، وإن شعلة حلمه بالمساواة ومناهضة التمييز لن تخمد أبدا.
ـــــــــــــــــــــ
* “
المدى” 29 نيسان 2013
سعد سلوم: أستاذ العلاقات الدولية المساعد في كلية العلوم السياسية-الجامعة المستنصرية، من مؤسسي المجلس العراقي لحوار الاديان 2013، والمركز الوطني لمواجهة خطابات الكراهيات في العراق 2018، ومعهد دراسات التنوع الديني 2019. له 16 مؤلفا عن شؤون التنوع في العراق والشرق الأوسط. من أبرزها التنوع الخلاق 2013 والوحدة في التنوع 2015 ونهاية التنوع في العراق 2020.

عرض مقالات: