“الديمقراطية تتطلب باستمرار إعادة التفكير وإعادة النظر في علاقتها بالعالم المتغير”

جوليان هكسلي

الديمقراطية تعني نظاما يكون الحكم فيه للشعب، أي أن للمواطنين دور وحق المساهمة في ادارة شؤون مجتمعهم، ويقوم هذا النظام على مبادئ احترام حقوق الإنسان وحرية التعبير. وممارسة المواطنين لحقوقهم الديمقراطية تأتي اما بشكل مباشر أو من خلال انتخاب ممثليهم. ولكن هل يمكن لأفراد لا يمتلكون مهارات التفكير النقدي الحر ان يمارسوا حقهم الديمقراطي؟

تحدد اليونسكو التفكير النقدي احدى المهارات الاساسية المطلوبة في القرن الحادي والعشرين. فما انعكاسات هذا على الواقع وخاصة في بلدنا العراق؟

 لا يمكن لمواطن لا يمتلك القدرة على التفكير النقدي ان يساهم ببناء مجتمع ديموقراطي. وهذه القدرة تعتبر من اهم المهارات الأساسية لتحقيق ممارسة سليمة للديمقراطية ولبناء حياة اجتماعية مستدامة، وبدون التمكن من هذه المهارة يصبح المرء عرضة لسيطرة الآخرين عليه وتضليله وتلاعبهم به.

فعلى الدولة والمجتمع الديمقراطي تمكين الافراد من هذه القدرة من خلال توفير واتباع مناهج واساليب تربوية وتعليمية كفوءة وشاملة واتباع طرق تُعزز شعور الافراد بالمسؤولية، والبدء منذ سن مبكرة بتعزيز هذا وتوفير الفرصة للافراد لتطوير مخيلتهم الابداعية بوقت مبكر وبشكل صحيح، وهذا ما تدعو اليه الأمم المتحدة في النقطة 4.7 من الهدف 4 من أهداف التنمية المستدامة، فلا تنمية صحيحة ومستدامة بدون هذه التربية.

وبهذا الصدد، تقول الدكتورة لندا ارند خبيرة التفكير الناقد: “إن الحياة التي لم يتم فحصها لا تستحق أن تعاش، لأنهم سيدركون أن العديد من الحيوات التي لم يتم فحصها معًا تؤدي إلى عالم غير نقدي، وغير عادل، وخطير". فلا يمكن اعداد الشباب وتمكينهم من مواجهة تحديات المستقبل الا بتزويدهم بتعليم وتربية جيدة، وتمكينهم من معالجة المعلومات التي يتلقونها بشكل صحيح واعدادهم ليتمكنوا من تطوير أحكام وقرارات سليمة.

اليوم نجد عباراتٌ شائعة مثل "رأيتُ ذلك على التلفاز" أو "قرأتُ ذلك على فيسبوك او سمعت هذا من الشيخ أو الزعيم القائد، وكثيرون يعتبرون ان هذه العبارات تبرير لصحة محتوى المعلومات. وهذا يشدد من خطر التلاعب في الافكار وتضليل السلوك اكثر من الماضي. فهل تضمن الاساليب والمناهج التربوية في نظام التعليم العراقي تنمية هذه المهارات؟ فلا يولد الانسان وهو يمتلك القدرة على تنظيم المعلومات والتمييز بين الصحيح والخاطئ، أو بين الحقيقة والرأي الذاتي الفردي، فيجب على البشر تعلم ذلك. وعلينا ان نقر انه لا يُمكن مجرد الطلب ببساطة من الأطفال اغلاق شاشات اجهزتهم الإلكترونية او عدم الاستماع الى تصريحات المتنفذين حتى لا يتعرضوا للتحريفات والأكاذيب أو يتأثروا بها. ولكن الاسلوب الفعال هو تسليحهم بمهارات التفكير النقدي وتقييم المعلومات وكشف الاكاذيب والخرافة والاحتيال.

التفكير النقدي هو مهارة فكرية أساسية تستند على سلوكٌ فطري، ولكن يكون في البداية غير مدرب لمواجهة تعقيدات التطور واساليب التضليل المتزايدة دوما، لذا يجب ان يدرب ويطور كمهارة اساسية يمتلكها الفرد. وهنا يجب على النظام التعليمي والمعلمون واولياء الامور تشجيع الطلاب على ممارسة وتطوير التفكير النقدي في المدرسة من خلال تشجيعهم على تقييم موقفٍ ما أو التعمق في تفسير وفهم وجهات نظر مختلفة لتكوين حكم خاص بهم. ويُمكن أن يكون ذلك موقفًا نقديًا قائمًا على إطار معياري، مثل ماهي حقوق الإنسان، وماهي الاخلاق القويمة ومفهوم التسامح وتقبل الاخر وكيفية الاستجابة لظروفٍ مُحددة. وهذا الأخير يتوافق مع نهج التربية النقدية.

لا توجد هناك طرق مُختصرة نسلكها للتفكير النقدي، فالتفاعل الإنساني الدائم هو مبدأ أساسي. ومن خلال النقاشات المستمرة، يطور المرء فهمه، ويتعلم كيفية القيام برد الفعل، ويتمكن من التعبير عن أفكاره بوضوح. التفكير النقدي يتجاوز بكثير مجرد جمع المعارف أو الاحتفاظ بالمعلومات في الذاكرة، بل هو جزء من شخصية الفرد وطريقة للتفكير.

والتفكير النقدي هو القدرة على تحليل المعلومات وتقييمها والتشكيك فيها بموضوعية وتركيز علمي للوصول إلى استنتاجات سليمة. ان هذا لا يعني مجرد قبول كل شيء، بل يستوجب فصل الحقيقة عن الخيال من خلال اختبار الافتراضات، وتقييم مصداقية المصادر، ودراسة وجهات النظر من زوايا متعددة. وهذه مهارة أساسية للفرد تساعده في حل المشكلات واتخاذ القرارات والمشاركة الاجتماعية الواثقة والرصينة، لا سيما في ظلّ تزايد ضخ المعلومات في عصرنا الحالي وكثرة الأخبار الزائفة من خلال استخدامات وسائل التواصل والذكاء الاصطناعي.

يمكن تحديد العناصر الأساسية للتفكير النقدي كالتالي:

  1. تحليل المعلومات، فلا يجب الاقتصار على جمعها وقبولها فحسب، بل من الضروري ان يشمل ذلك أيضًا التحقق من دقتها وأهميتها ومصداقيتها.
  2. التساؤل والتشكيك في الادعاءات، فيجب اختبار ما يدعيه الآخرون وما يعتقدونه ووضعها تحت مقياس التشكيك والتساؤل واختبار حججهم والتحقق من صحتها.
  3. تعدد وجهات النظر، يجب تعلم النظر إلى القضايا من زوايا مختلفة وعديدة وليس من زاوية واحدة لتكوين صورة شاملة حول المواضيع.
  4. الاستنتاجات يجب ان تستند الى حقائق، فيجب تعلم اتخاذ القرارات والأحكام بناءً على الحقائق والأدلة، وليس على الآراء أو المشاعر او نسخ اراء ومعتقدات الاخرين بدون تمحيص وتدقيق.
  5. التأمل والتفكر، يجب تعلم التأمل في عمليات التفكير واتخاذ القرارات الخاصة بالشخص بشكل نقدي موضوعي بهدف تحسين وتطوير المهارات باستمرار.

أما أهمية تنمية وتطوير مهارة التفكير النقدي فتكمن في التالي:

1 التعامل مع التعقيد، ففي عالم سريع التغير باستمرار، يساعد التفكير النقدي على فهم وادراك المعلومات المعقدة وتصنيفها.

2 مكافحة التضليل، فالتفكير النقدي مهارة مهمة للتعرف على الأخبار الكاذبة والمعلومات المضللة ومواجهتها.

3 اتخاذ القرارات باستقلالية، مهارة التفكير النقدي تمكن الفرد من المشاركة المسؤولة والواثقة في المجتمع من خلال اتخاذ قراراته الخاصة والمدروسة.

4 تحسين الكفاءة لحل المشكلات، مهارة التفكير النقدي تعزز القدرة على تحليل المشكلات بشكل منهجي، وتمكن من إيجاد حلول مُرضية قائمة على الادلة والبيانات.

في ألمانيا ما بعد الحرب، أدت اختلافات المناهج في التعليم السياسي والديني إلى جدل في النظام التعليمي. وفي عام ١٩٧٦، اجتمع المعلمون في بلدة بويتلسباخ الصغيرة لمناقشة وجهات نظرهم المختلفة؛ وتوصلوا إلى ثلاثة مبادئ مهمة:

(١) يجب عدم تلقين الطلاب افكارا متطرفة وحمايتهم من تكوين اراء خاصة تستند على شحن العواطف ومسايرة روح القطيع بدون تمحيص في تأثيراتها الاجتماعية والانسانية.

(٢) ضرورة طرح القضايا المثيرة للجدل سياسيا وعلميا بطريقة نقاش نقدي هادئ ورصين في داخل الدرس.

(٣) ضرورة تمكين الطلاب من تحليل الوضع السياسي والاجتماعي، وتقييم كيفية تأثيره على مصالحهم، والبحث عن سبل ووسائل للتأثير على الوضع بما يتماشى مع مصالح ابناء الوطن ووحدة المجتمع.

وما زالت هذه المبادئ الاساسية تتمتع بأهمية كبيرة في التعليم الألماني اليوم والذي يعتمد على مبدأ تشجيع الجدل والنقاش كمبدأ اساسي في التعليم وبالاستناد على مبادئ التربية النقدية التي تعتبر الاساس في تطور الفرد والمجتمع.

ولكن في بلدان أخرى يسودها الطابع التسلطي ومتخلفة تكنولوجيا واقتصاديا عن المانيا لا تزال هذه المسألة موضع جدل، ففي البرازيل مثلا، كتب باولو فريري، وهو معلم برازيلي وفيلسوف ورائد في علم التربية النقدية، أنه في التعليم الذي يحدد المشكلات، سنجد القوة لتطورنا. ولكن وفي بلد باولو فريري نفسه، تم إنشاء منظمة لالغاء التفكير النقدي من الفصول الدراسية، ففي عام 2015، أسس ميغيل نجيب، وهو محام من ساو باولو، منظمة Éscolas sem Partido (مدارس بدون أحزاب سياسية) بعد أن ازعجه مدرس تاريخ قام بمقارنة تشي جيفارا بالقديس فرانسيس الأسيزي. وقام المشرعون الكاثوليك والانجيليون وبتأثير من منظمة نجيب، بطرح مبادرات تشريعية لمنع المعلمين في جميع أنحاء البرازيل من تناول القضايا السياسية والاجتماعية والأخلاقية في فصولهم الدراسية. ومن بين هذه المشاريع، مشروع قانون قدمه القس الإنجيلي ماغنوس مالطا إلى مجلس الشيوخ البرازيلي عام ٢٠١٦، والذي كان يبغي الزام المدارس بعرض ملصقات في جميع الفصول الدراسية تُبيّن مسؤوليات المعلمين وحق الطلاب في عدم "تلقينهم". وقد احتجّ اتحاد التعليم البرازيلي الى جانب الطلاب والعديد من أعضاء هيئة التدريس، بشدة على هذا القانون، الذي عُرف فيما بعد باسم  قانون "حظر الكلام".

لم يتم اقرار مشروع القانون، لكن منظمة "المدارس غير الحزبية" ما زالت تواصل حملتها. ونجد اليوم في العالم كثيرا من الحكام الشعبويون الذين يهاجمون المعلمين ويتهموهم بتلويث افكار الشباب بآراء يسارية حرة. ومنهم رودريغو دوتيرتي في الفلبين وفيكتور أوربان في المجر ودونالد ترامب في الولايات المتحدة، وجميعهم يبدون اهتمامًا خاصًا بعمل المعلمين، ويرونهم تهديدًا محتملًا للحكم اليميني الاستبدادي.

 يُعد التفكير النقدي أحد أهم مبادئ عصر التنوير وازدادت أهميته في القرن الحادي والعشرين ويعتبر من اهم المهارات التي يجب على الفرد ان يمتلكها اليوم. ان هذا المبدأ صحيحٌ بشكل عام وخارج نطاق التعليم ايضا، لكن للتعليم دورا خاصا في تطبيقه العملي.

وهذا درس علينا تعلمه من تاريخنا، فلم تزدهر الثقافة العربية الاسلامية لتكتسب موقعا مفصليا في الحضارة البشرية الا بعد انفتاحها على العلوم والمعارف العالمية والتفاعل معها بشكل ايجابي وباطلاق حرية الفكر واستخدام ادوات التفكير النقدي. فيقول العالم العربي الكبير ابن الهيثم البصري في تأسيسه لمنهجية النقد والشك المنهجي في منظومته العلمية: «وحسن الظن بالعلماء في طباع جميع الناس... فطالب الحق ليس هو الناظر في كتب المتقدمين، المسترسل مع طبعه في حسن الظن بهم، بل طالب الحق هو المتهم لظنه فيهم، المتوقف فيما يفهمه عنهم، المتبع الحجة والبرهان، لا قول القائل الذي هو إنسان، المخصوص في جبلّته بضروب الخلل والنقصان». ولم يتراجع دور الحضارة العربية الا بعد هيمنة الأفكار والأنظمة الاستبدادية وانتشار قمع الأفكار المعارضة، ما أعاق تطوير ثقافة النقاش والتفكير النقدي؛ ورسخ من سيطرة وانتشار الجهل. وبعد ذلك انتقل مركز الثقافة العالمية إلى أوروبا وتراجعت الثقافة العربية لتصبح في ظل التاريخ.

جاء الفيلسوف التربوي يوهان كومينيوس، الذي عاش في القرن السابع عشر ويُعتبر أباً للتعليم الحديث، وقدم بياناً يعكس تطور هذه الفلسفة في نشر الفكر النقدي ويصف مهام التعليم والتدريب:

- النهج التدريجي (omnia gradatim)

- البحث في كل شيء بشكلٍ مستقل، دون الخضوع لأي سلطة

- التصرف بمبادرة ذاتية: "الممارسة الذاتية".

وبعد مرور سنوات عديدة، وتحديدًا في عام ١٩٩٦، حدّد تقريرٌ لليونسكو، أعدته اللجنة الدولية للتعليم في القرن الحادي والعشرين، برئاسة جاك ديلور، رئيس المفوضية الأوروبية من عام ١٩٨٥ إلى عام ١٩٩٥، أربع ركائز أساسية للتعليم:

  • تعلّم اكتساب المعرفة - وهو تعليم عام واسع يُمكّن من تعلّم متعمق في مواضيع مختارة.
  • تعلّم الفعل - وهو لا يقتصر على اكتساب المهارات المهنية فحسب، بل يشمل أيضًا القدرة على التعامل مع المواقف المتنوعة والعمل ضمن فريق.
  • تعلّم الوجود - وهو تطوير شخصية الفرد والقدرة على التصرف باستقلالية متزايدة وشعور متنامٍ بالحكمة والمسؤولية.
  • تعلّم العيش معًا - وهو تطوير تفهم الآخرين وخلق وعي بالروابط الجامعة.

وحسب ما يقول عالم النفس التربوي السويسري بياجيه: يفترض هذا "أن يستكشف الطلاب، كل ما يحفز العقل والذاكرة واللغة واليد، ويكتشفون ويناقشون ويفعلون ويكررون بمبادرةٍ ذاتيةٍ ودون هوادة - وتبقى مهمة المعلم الوحيدة حينها هي الانتباه أن كل شيء يجري كما ينبغي".

ان تعزيز تدريب هذه المهارة في المدارس والجامعات العراقية سيعزز من روح الديموقراطية والابداع والتسامح والتراص الاجتماعي واعداد الشباب العراقي لتحديات القرن الحادي والعشرين. من خلال خلق بيئة تعليمية افضل تتسم بالتنوع والمرونة الكافية لتلبية احتياجات المتعلمين، وتُتيح باستمرار تطوير مجتمع تعاوني من الطلاب والمعلمين ان كان في مجموعات صغيرة او كبيرة، وسيتعلم الطلاب التواصل بنجاح، والعمل معًا كفريق، وممارسة الانضباط الذاتي، وتحسين مهاراتهم الاجتماعية والشخصية. ومن خلال التعاون، يُحسّنون فهمهم لمحتوى التعلم، ويُعززون مهارات التفكير النقدي لديهم.

ويمكن تطبيق التعليم الديمقراطي في أي فصل دراسي وبغض النظر عن المادة الدراسية، وبطريقة مُصممة خصيصًا لكل فئة. يبدأ هذا التعليم عندما يعمل المعلمون والطلاب معًا لممارسة مهارات ومواقف معينة تُعزز المواطنة الديمقراطية الفاعلة.