في لحظات الانسداد السياسي والاجتماعي، تختبر قيمة الديمقراطية ومعناها الحقيقي في حياة الشعوب. فالحرية، بوصفها التعبير الأسمى عن كرامة الإنسان، لا تستقيم من دون ديمقراطية تضمن الحق في التعبير والتنظيم والاختلاف والمساءلة. الديمقراطية والحرية ليستا مفهوميْن منفصلين، بل هما شرط متبادل: لا حرية بلا ديمقراطية فعلية، ولا ديمقراطية بلا ضمانات للحقوق والحريات الأساسية. لكن الحرية، كما تُمارس في ظل أنظمة طبقية، كثيراً ما تُفرّغ من مضمونها التحرري وتُختزل في حرية السوق والتنافس الفردي، بينما تُقيد حرية الجماعة وتُحاصر نضالاتها بشروط النظام القائم.

النموذج السائد للديمقراطية اليوم هو ما يُعرف بالديمقراطية البرجوازية، التي تمأسست في ظل الرأسمالية الغربية. هذا النموذج يمنح الأفراد حق الاقتراع والتمثيل، لكنه يبقي على جوهر السلطة بيد الطبقات المالكة، عبر أدوات إعلامية وتشريعية واقتصادية. إنها ديمقراطية مؤسسات، نعم، لكنها مؤسسات تخضع في قراراتها الاستراتيجية لمصالح السوق. في مثل هذا النظام، تمارس السلطة بواجهات حزبية وانتخابية، لكن من دون مساس بالبنية العميقة التي تعيد إنتاج الفقر والتفاوت وتكريس الهيمنة. وهكذا تصبح الديمقراطية شكلية، تدار من فوق، وتستعمل لتبرير السياسات بدل أن تكون وسيلة لتغييرها.

أما الديمقراطية الاشتراكية، فهي مشروع آخر كلياً، يقوم على إشراك الشعب في صياغة القرار، لا فقط في اختيار ممثليه. إنها ديمقراطية تُبنى على قاعدة العدالة الاجتماعية، والمساواة الاقتصادية، والملكية الجماعية للموارد الأساسية. في هذا النموذج، لا ينفصل السياسي عن الاقتصادي، بل يتحرر الإنسان من علاقات الاستغلال، ويستعيد المجتمع قدرته على تخطيط حياته وفق حاجاته، لا وفق أرباح الشركات. الديمقراطية الاشتراكية تنطلق من الجماهير، وتعود إليها، وهي الوحيدة التي تجعل من الحرية أداة للتحرر الجماعي، لا امتيازاً فردياً مشروطاً.

إن الطريق نحو الاشتراكية ليس طريقاً مغلقاً، بل مسار تراكمي، يبدأ من النضال من أجل الحقوق اليومية، ويمتد نحو تغيير شامل في طبيعة السلطة والإنتاج والمعرفة. هذا الطريق لا يُرسم في المكاتب، بل في الشوارع والمصانع والجامعات، حيث تنبض حياة الناس وتتشكل مطالبهم. الانتقال إلى الاشتراكية لا يتم عبر الانقلاب، بل عبر بناء وعي جماعي، وتنظيم قوى اجتماعية قادرة على فرض إرادتها، وتطوير بدائل ملموسة للنظام القائم. الاشتراكية ليست وعداً مؤجلاً، بل هي ممارسة تبدأ من الآن، حين يدافع الناس عن حقهم في التعليم والصحة والعيش الكريم، ويربطون بين معاناتهم اليومية وطبيعة النظام الاقتصادي والسياسي الذي يكرّسها.

لقد بات من الضروري اليوم تعزيز وعي الجماهير بمفهوم الديمقراطية الحقيقي، بعيداً عن الشوائب التي علقت به نتيجة تراكمات الماضي القريب والبعيد. فبعد عام 2003، ورغم الانفتاح السياسي الشكلي، لم تُمنح الجماهير فرصة كافية لفهم الديمقراطية كممارسة شعبية تُبنى على الحقوق والمشاركة والمحاسبة. ما ترسّخ في وعي الكثيرين هو اختزال الديمقراطية في صناديق الاقتراع، بينما ظلّت أدوات القمع الناعمة والهيمنة الحزبية تعيد إنتاج أشكال جديدة من الاستبداد، مموّهة بلغة توافقية تدار من قبل نخبة برجوازية تستتر خلف خطاب المحاصصة. لقد أُفرغت الديمقراطية من جوهرها التحرري، وتحوّلت إلى واجهة لإدامة السلطة، لا إلى وسيلة للتغيير. من هنا، تأتي المبادرة كمحاولة جادّة لاستعادة المعنى الشعبي للديمقراطية، ونقله من مستوى الشعارات إلى مستوى الفعل اليومي، عبر توعية الناس بحقيقة أن الديمقراطية ليست هبة من أحد، بل ثمرة نضال مستمر، وشرط أساسي لأي عدالة اجتماعية منشودة.

إن حماية الديمقراطية ليست مهمة قانونية أو تقنية، بل هي فعل مقاومة ضد التهميش والاستغلال. وهي تبدأ حين يرى الناس أنفسهم شركاء في القرار، لا رعايا في دولة تتحكم بها أقلية. من هنا، تنطلق هذه المبادرة لتعيد للديمقراطية معناها الشعبي والجذري، وتفتح أفقاً جديداً لنضالنا من أجل مجتمع أكثر عدالة وحرية.

عرض مقالات: