لو رجعنا بالبصر الى الوراء قليلا، ونظرنا الى بداية العمليات الأرهابية التي قامت بها العصابات الصهيونية المجرمة كالهاجانة وإرجون وبينار وشتيرن وبلحاح وتحت ظل الانتداب البريطاني على فلسطين آنذاك، وبدعمهم، تمهيدا لتنفيذ وعد بلفور المشؤوم على الواقع، حيث قامت تلك العصابات الصهيونية بارتكاب أبشع الجرائم، بالهجوم على القرى الفلسطينية وقتل وتهجيرالسكان من قراهم وسلب ممتلكاتهم.
وعقب إنهاء الانتداب البريطاني على فلسطين، أعلن ديفيد بن غوريون الرئيس التنفيذي للمنظمات الصهيونية العالمية ومدير الوكالة اليهودية، قيام الكيان الاسرائيلي واحتلال اليهود الى ما أسماه (ارضهم التأريخية)، وهذا الإعلان لم يأت بشكل مفاجئ وبغفلة من البريطانيين، بل بعلمهم وبالتنسيق معهم، وليس بدعم البريطانيين فقط، وانما بدعم الإمبريالية العالمية والدول الاستعمارية الغربية.
فما كان من الدول العربية إلّا القيام بالحرب على هذا الكيان في مايو 1948، كالمملكة الأردنية، والمملكة المصرية ، ومملكة العراق والمملكة العربية السعودية وسوريا ولبنان، فكانت تلك الحرب ضد العصابات الصهيونية من عمق مشاعر الجيوش العربية، ولو لا خيانة الحكومات العربية المنصّبة من قِبَل الدول الاستعمارية، بريطانيا وفرنسا ، لكانت منتصرة على العصابات الصهيونية، لأن الجيوش العربية كانت بمعنويات عالية، وبإيمان مطلق بالقضية الفلسطينية وعدالتها التي هي قضية العرب والمسلمين، وليس قضية محصورة بالفلسطينيين فقط ، على الرغم من أن التسليح كان دون المستوى المطلوب، ومع ذلك أقول، ويشهد التأريخ والعدو قبل الصديق، أن الأنتصارات التي قدمها الجيش العراقي آنذاك عظيمة، وقد حررت جنين، وهي تتقدم نحو التحرير، لولا الأوامر التي جاءت من حكومة بغداد العميلة أنذاك، بإيقاف الزحف في تحرير المزيد من الأرض ، مما سبب ذلك ارباك في صفوف القوات المسلحة، فكان احد الاسباب التي أدت الى الخسارة في المعركة ، وعلى العموم ، ولنكن صريحين، هل من المنطقي ان الكيان الصهيوني الذي دعا وسعى الى تأسيسه بريطانيا بموجب وعد بلفور المشؤوم ، وبدعم بريطانيا، وهذه الوثيقة ..
" تنظر حكومة صاحب الجلالة بعين العطف الى إقامة وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين ، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية .. " ، وفي ذات الوقت تدعم الجيوش العربية ( ماما بريطانيا ) لتقتل ابنتها ( صنيعتها ) اسرائيل على أيدي الجيوش العربية التي هي تحت قيادة الحكومات العربية العميلة لها ، وهي التي اوجدتها بعد اتفاقية سايكس بيكو، وتجزئتها البلاد العربية في مناطق نفوذ بين الحلفاء..؟ !
فهي مغالطة لا نقاش فيها، في استخدام تبريرات مضللة لأثارة العواطف وحسم النقاش.
ولهذا من البديهي ان تكون نتيجة الحرب العربية الأسرائيلية 1948 هي الخسارة .
كما هو الحال في كل المباحثات التي جرت في المسارات السياسية بين الحكومات العربية واسرائيل بوساطة امريكية، (كامب ديفيد، اوسلو ووو..)! فتلك المباحثات بين العرب واسرائيل بإدارة أمريكا، يمكننا ان نشبّهها بما قاله المتنبي (فيك الخصام وأنت الخصم والحكم).
وبعد نكبة 1948، وانتكاسة حزيران 1967 نستطيع ان نلخص أهم الآثار السلبية منها والإيجابية التي تركتها، وبشكل مختصر، وهي على مستويين:
اولا على المستوى العربي الرسمي المتمثل بالحكومات العربية، فهي
كما تعرفون ونعرف قيامهم وقعودهم وصياحهم ونياحهم والخطب العصماء ، فكل ذلك ليس أكثر من زوبعة في فنجان ، وهذا منذ الأحتلال والنكبة في 1948 ولحد الآن ، من تخاذل الى استسلام ، ومن استسلام الى خيانة ، ومن خيانة الى تطبيع ( انبطاح ) بشكل فاضح وواضح ، وبعضهم شاؤوا أن ينبطحوا في الظل، خجلين من أن تظهر عوراتهم .
وهل هناك أكثر خذلانا وخيانة من الحكومات العربية في ما رأيناه على طول امتداد الجرائم الوحشية التي ارتكبها الكيان الصهيوني، ويرتكبها بحق الشعب الفلسطيني، وبالخصوص غزة، وآخرها ما نراه اليوم من إبادة جماعية لا مثيل لها.
ولم يقف أولئك المتخاذلون والمستسلمون عند حدود تخاذلهم واستسلامهم وانبطاحهم فحسب، لا بل رأينا وأنتم رأيتم بعض هذه الحكومات العربية المنبطحة كانت أداة تنفيذ للتآمر على مَنْ لا يحذو حذوهم في الانبطاح، بعد أن لم يبق مَنْ يقف أمام الكيان الصهيو- امريكي، وبشكل قريب ومباشر، إلاّ سوريا الصامدة التي لم تستسلم، وقد دفعت الثمن غالياً على موقفها الثابت.
أما الآثار التي تركتها نكبة 1948 ونكسة حزيران 1967 على مستوى الشارع والجماهير العربية عموماً، والشعب الفلسطيني بشكل خاص، فهي نمو الوعي اتجاه ما يجري على الساحة، وما يمارسه الكيان الصهيو- أمريكي – غربي، من قمع وتشريد ومعاناة الشعب الفلسطيني من مأساة وتشريد.
وحقّاً ما قاله ايميل سيوران " أن تتألم يعني أن تنتج المعرفة " ، وما النمو النوعي والكمي الذي حصل عند الاجيال ما بعد النكبة 1948 ، ونكسة حزيران 1967، إلّا نتاج لتلك المأساة والمعاناة، التي أنتجت روحيات عالية ، وبرزت مجموعات من الشباب تحمل في ثنايا ارواحهم طاقات هائلة ، وفي نفوسهم ارادات فولاذية عصية على الكسر، أو الألتواء، ومن تلك الحصيلة نمو الوعي، وتحرره من الأطر القومية الضيقة والمشبوهة، وانطلاقهم نحو الفكر النضالي الأنساني التحرري الذي يربطهم بكل القوى الخيرة المناضلة من أجل العدالة والتحرر من الهيمنة الاستعمارية، فاتسعت رقعة هذا التوجه التحرري وتأثر الشباب به ، والشريحة المثقفة منهم ، وكان لا بدّ من هذا الانعتاق، والتوجه الصحيح في المسيرة النضالية ، وهذا ينبغي على مختلف الميول والأتجاهات، الفكرية والعقائدية والسياسية، يسارية او اسلامية، وكل حسب امكاناته و توجهاته وقدراته، والكل يصب في بوتقة النضال الفلسطيني، الذي يستقطب كل التيارات الوطنية الثورية وفصائلها النضالية والتحررية .
إذ لم يقتصر النضال التحرري على البندقية ، بل كان للقلم دور بارز ومتميز في المعركة .
فالمشاعر الجياشة، والتفاعل مع القضية لما يعانيه الشعب الفلسطيني من ظلم وسلب لحقوقه، وتشريده عن ارضه، و ازدياد حجم وعمق المآسي التي يعيشها ، قد أدى وساعد على تبلور الأفكارالنيّرة المتنامية بين صفوف الشباب المتحمس، فتفجرت الطاقات الابداعية في التعبير عن ما يختلج بين طيات نفوسهم ، فكانت على اشكال تعبيرية مختلفة ، شعرا، قصة، رواية، مقالة ، وتعبيرا بالريشة، وعلى سبيل المثال لا الحصر، أدب المقاومة، هذا النتاج المعرفي والحسي كان وليد رحم المعاناة والمآسي، وما أنتجه شعراء المقاومة من أعمال أدبية عظيمة ، تجاوزت الحدود النضالية القومية الضيقة، الى رحاب نضالي تحرري عالمي، وتناغمت نبرات الأصوات التحررية في انشودة اممية تحررية من أجل غد انساني أفضل، وكان لهذا التناغم اثر كبير وفاعل في روحية المناضلين السائرين في طريق ذات الشوكة، في قصائدهم التي تشحذ الهمم في المسيرة النضالية.
فالقصيدة الفلسطينية لها الدور البارز والملموس من حيث الشكل والمضمون، وخرجت من النمطية والقوالب الجاهزة الى رحاب اوسع من حيث شكل بناء القصيدة واللغة الحية التي تتناغم مع الحس الثوري للقضية الفلسطينية، وتناولها الصور الجديدة في القصيدة التي تنم عن مدى سعة وعي الشاعر وتأثره بالحداثة والتجديد والمعاصرة.
وكان أول مَنْ أطلق مصطلح أدب المقاومة الفلسطينية هو الشهيد الفلسطيني غسان كنفاني على الأدب الذي بدأ الكتابة في فلسطين منذ 1948 ضد الاحتلال الصهيوني لفلسطين.
وفي الحقيقة أن الأدب ما هو إلاّ فكر مشحون بمشاعر وأحاسيس خلاقة،
وبصيغة فنية معبرة عما يختلج في أعماق المبدع ، فيستمد مادته من المحيط الذي يتأثر به ويتفاعل معه .
وقد بدأ النضال والمقاومة المسلحة في حمل البندقية منذ الستينات والى ما وصلت اليه اليوم المقاومة في غاية من القوة والعظمة في النضال والمواجهة مع العدو الصهيوني المغرور والمتغطرس، فكسرت شوكته، وأثبتت للعالم أن الكيان الصهيوني أوهن من بيت العنكبوت.
وما عملية طوفان الأقصى إلاّ ملحمة اسطورية لم يشهدها تأريخنا المعاصر، بقيادة ثلة من المؤمنين بقضيتهم، وبإرادة فولاذية، ووعي هو نتاج عمر من معاناة ومأساة مارسها العدو الصهيوني وكيانه المغتصب للأرض والحقوق..
فعملية طوفان الأقصى في الحقيقة، مهما حاولت أن أجد من بين مشاعري وأحاسيسي وبنات أفكاري تعبيرا، فأقولها صدقا وحقا لم أجد ما أريد أن أعبر به، فطوفان الأقصى هو حقّا طوفان بكل ما تعني الكلمة، وسيبقى أثره المرعب في قلوب ونفوس الصهاينة الغزاة، ولا يزول إلاّ بزوالهم.
وما حالة الرعب التي تأكل قلوب قادة الكيان وعلى رأسهم النتن ياهو، الذي أعترف بالسابع من تشرين، يوم إنطلاق عملية طوفان الأقصى بالأسود ، لشدة هول العملية البطولية، التي لم يتوقعوها، ولا مرت يوما حتى في احلامهم ، بناء على ما يعرفوه جيدا ، وثقتهم التامة من أن الحكام العرب لا خوف منهم ولا أي شئ هم يفعلون، فكان طوفان الأقصى، هو من أقصى الأحتمالات وأبعدها، ولم يكن يخطر على بالهم قط ، ولهذا كانت ردود فعل الصدمة جعلت النتن ياهو وقادة الكيان الصهيوني يرتكبون أبشع الجرائم بحق الأطفال والنساء والشيوخ، وتدمير المستشفيات واماكن العبادة من مساجد وكنائس ومدارس ، وكل ما هو محرم مسه في حالة الحروب ، وذلك لعدم جرأتهم في المواجهة، وفشلهم في تحقيق اي نصر على المقاومة البطلة، وكلما تمادى هذا النتن ياهو في جرائمه ، كلما سارع في حفر قبره بنفسه ونهايته التي يحاول ان يهرب منها بجنونه، وهو كالديك المذبوح يهرب من الموت والموت برقبته .
فقوى الشر الغربي وعلى رأسهم أمريكا وما يقومون به من هولوكست مفتوح بحق الشعب الفلسطيني الأعزل من أطفال ونساء وشيوخ ومرضى، فإنهم بجرائمهم هذه ودعمهم لهذا الديك المذبوح (النتن ياهو) لا يمكنهم ان يزيدوا يوما واحدا في عمره، بل يزيدون الى صفحات تأريخهم الإجرامي، صفحات دموية أخرى، أكثر إجراما ودمويةً، حيث كشفوا بهذه الجرائم عن حقيقة وجوههم القبيحة، بعد أن كانوا يخفوها بأقنعة (الإنسانية وحقوق الأنسان الزائفة والخادعة..).