خسائر جسيمة

أكدت المئات من تقارير الأمم المتحدة ونتائج دراسات أكاديمية دولية متخصصة أن التغيرات المناخية وتداعياتها الوخيمة كلفت الاقتصاد العالمي خسائر بلغت عشرات تريليونات الدولارات حتى الآن. وقد تحملت القسط الأكبر منها البلدان النامية والفقيرة.

    من المعطيات الحديثة ما توصلت إليه دراسة دولية نشرتها Science Advances في تشرين الأول 2022 ، تناولت بالتحليل التبعات الاقتصادية لموجات الحر الشديد التي شهدها كوكبناعلى مدى 20 عاماً مضت. وقدَّر الباحثون خسائر الاقتصاد العالمي من جرَّائها ، خلال الفترة 1992 و2013، بما يتراوح بين 5 و29 تريليونً دولار أمريكي. وكان تأثير ذلك أشدَّ وطأةً في المناطق منخفضة الدخل المعروفة بمناخها الدافئ، بالرغم من ضئالة انبعاثاتها الغازية المسببة للإحتباس الحراري مقارنة بالانبعاثات الناتجة عن المناطق الأغنى. ففي بلدان مثل البرازيل وفنزويلا ومالاوي، مثلا، كانت من بين أشد البلدان تضررًا، إذ تراجع نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي بما يقارب 5% سنويًا، مقارنًة بما كان من المفترض أن يكون عليه لو لم تشهد هذه البلدان موجات الحرّ الناتجة عن الأنشطة البشرية. في المقابل، لم ينخفض إجمالي الناتج المحلي في بلدان مثل كندا وفنلندا إلا بمقدار أقل من 1%.

    أزاء ذلك،أكدت الدراسةعلى الحاجة إلى سياسات مناخية تعالج مشكلة غياب العدالة البيئية .

من جهتها،حذرت الأمم المتحدة من أن العالم سيواجه 560 كارثة سنويا اعتبارا من عام 2030، إذا استمرت وتيرة التغير المناخي على حالها. وأشار "مكتب الأمم المتحدة للحد من مخاطر الكوارث" (UNODRR) في تقريره الصادر في نيسان 2022، إلى وقوع ما بين 350 و500 كارثة متوسطة إلى واسعة النطاق على مستوى العالم سنويا على مدى العقدين الماضيين. وأضاف أن "ذلك يزيد بـ 5 مرات عن المتوسط خلال العقود الثلاثة السابقة". وأضاف: في ظل تغير المناخ، من المتوقع أن تقع أحداث كارثية ناجمة عن الجفاف ودرجات الحرارة القصوى والفيضانات المدمرة بشكل متكرر أكثر في المستقبل.

    وقدّر المكتب أن 37.6 مليون شخص آخر سيعيشون في ظروف الفقر المدقع بحلول عام 2030 بسبب آثار تغير المناخ والكوارث.

   علماً بأن معظم الخسائر المتعلقة بالكوارث لا تغطيها شركات التأمين، فمنذ عام 1980 تم تغطية حوالي 40% فقط من الخسائر على مستوى العالم، لكن النسبة تتراجع في البلدان النامية إلى أقل من 10%..

الى هذا،أشار تقرير عن مخاطر الكوارث المترابطة،صدر عن "جامعة الأمم المتحدة، معهد البيئة والأمن البشري ((UNU-EHS، الى أن عامي 2021 و2022 شهدا تحطيماً كارثياً للأرقام القياسية للكوارث في أنحاء العالم، مع أن المخاطر، كالزلازل والفيضانات وموجات الحرّ وحرائق الغابات، كان يمكن منعها من أن تصبح كوارث تهدد الحياة. ولفت التقرير،الذي نشر في أيلول 2022، إلى ان الأشهر التسعة من عام 2022 شهدت فقدان نحوَ 10 اَلاف شخصاً لحياتهم، وقُدِرت الأضرار بنحو 280 مليار دولار في العالم.

مرفق الخسائر والأضرار

على مدى أعوام طويلة كانت الدول النامية والفقيرة تدعو الدول المتقدمة لتخفيف أعباء التغيرات المناخية وتداعياتها، لكونها المتضرر الأكبر منها، ولا تتحمل سوى نسبة ضئيلة من مسؤوليتها، بينما الدول المتقدمة هي المسؤول الأول عن إنبعاثات الغازات المسببة للإحتباس الحراري وللتغيرات المناخية.

لقد جوبه بشدة طيلة ثلاثة عقود طلب الدول النامية إدراج تمويل الخسائر والأضرار المناخية على جدول أعمال مؤتمرات المناخ. ولم تتكلل جهودها المضنية بالنجاح إلا في العام الماضي، في COP 27 بمصر، حيث رضخت الأطراف المعنية لإدراج الطلب، وبعد مناقشات طويلة ومتعبة، صدر عن المؤتمر قرار بالإجماع بتأسيس صندوق " الخسائر والأضرار" المناخية  لمساعدة الدول الأكثر تضررًاً، وتخفيف عبء التكاليف المتزايدة عنها، كمحاولة لاجتياز ثلاثين عامًا من الرفض من جانب الدول المتقدمة.

بموجب القرار تم تشكيل لجنة، سميت اللجنة الانتقالية، مؤلفة من 24 عضواً(14 عضواً من البلدان النامية و10 من البلدان المتقدمة)، لوضع الصيغة النهائية للترتيبات المؤسسية للصندوق،وهيكله، وإدارته، واختصاصاته، وتحديد عناصر ترتيبات التمويل الجديدة، وتحديد مصادر التمويل وتوسيعها، ووضع وسائل لضمان التنسيق والتكامل مع الترتيبات القائمة، وتحديد حجم التمويل اللازم لمواجهة العواقب الحالية لتغيّر المناخ، وتقديم مقترحاتها الى مؤتمر (COP 28)  في دبي لمناقشتها وإقرارها.

تعقيباً على القرار، أعلن بيلاوال بوتو زرداري، وزير خارجية باكستان، ورئيس وفد "مجموعة الـ 77 والصين" الى " COP 27": ان الآثار السلبية لتغيّر المناخ والاحترار العالمي أصبحت تدريجياً أكثر تواتراً ووحشية. وان أولئك الذين ساهموا بأقل قدر فيها هم الأكثر معاناة. ولفت الى ان الاتفاقية الأطارية للمناخ لا تحدد المسؤولية القانونية لأولئك الذين ساهموا أكثر في تغيّر المناخ، إلا أنها تؤكد المبدأ المركزي للعدالة المناخية.

وفيما رحّبت "منظمة غرينبيس" بقرار إنشاء صندوق لتمويل الخسائر والأضرار المناخيّة، ورأت أنه يمثّل خطوة أولى أساسيّة في الطريق نحو تحقيق العدالة المناخية، حذرت في نفس الوقت من التقاعس السياسي وإمكانية المماطلة في التنفيذ مثل ما جرت العادة.

قلق مشروع

من دواعي قلق البلدان النامية،وهي تتطلع إلى نتائج عمل للجنة الانتقالية، إن صندوق الخسائر والأضرار لم يتم تفعيله لحد الآن، وأن خطط التكيّف في العديد من البلدان النامية لا تزال غير ممولة.فيستوجب الوفاء على وجه السرعة بميثاق غلاسكو للمناخ الذي يقضي بـمضاعفة التمويل المتعلق بالمناخ لأغراض التكيّف. ولعل الأهم هو أن الالتزام الذي تم التعهد به منذ عام 2009 لحشد 100 مليار دولار سنوياً في مجال تمويل المناخ، لم يتحقق. ويتعين على البلدان المتقدمة أن تفي على وجه السرعة بهذا الالتزام وتوافق على هدف جماعي كمي جديد (NCQG) لزيادة التمويل المتعلق بالمناخ من الحد الأدنى البالغ 100 مليار دولار، بحلول المؤتمر القادم للأطراف.

    وإستطراداً، كان يفترض باللجنة الثلاثية المخولة من قمة «كوب 27» ان تعقد ثلاثة اجتماعات لمناقشة تفاصيل تأسيس وتمويل  الصندوق، وتحديد المنح، وتقديم توصيات محددة لاعتمادها في «كوب 28».

   بيد ان أول اجتماع للجنة الانتقالية كشف عن "محاولات غربية لعرقلة إجراءات إنشاء هذه الآلية التمويلية الجديدة"-وفقاً لما أعلنه ناشطون بيئيون حضروا كمراقبين الاجتماع الذي استضافته مدينة الأقصر المصرية، خلال الفترة من 27 إلى 29 اَذار  2023، مؤكدين إن الجهود الكبيرة التي بذلتها الرئاسة المصرية لمؤتمر (كوب 27) من أجل تحقيق إنجاز في أول اجتماعات اللجنة، لم تقابل بأي تقدم ، إذ لا تزال بعض الدول الغربية متمسكة بمقترحات قديمة غير التي أقرتها قمة (كوب 27).وهو ما يدلل على واقعية المخاوف من التسويف والمماطلات الغربية.

   وأوضحوا بان الدول الغربية لا تزال تحاول عرقلة إنشاء الصندوق، باستخدام مقترحات قديمة تكررت كثيراً في المؤتمرات السابقة. وذهب ممثلوها، خلال الاجتماع، إلى أنه " لا حاجة في الوقت الراهن إلى إنشاء كيان مستقل لتمويل (الخسائر والأضرار)"، معتبرين أن ما تقدمه الصناديق الأخرى والمساعدات التي تقدمها الدول بشكل منفرد، وما يقدمها البنك الدولي، هي" تمويل" للخسائر والأضرار. وهذا خلط بين التمويل الذي يقدم للتأقلم مع تغيرات المناخ، والتمويل المخصص للخسائر والأضرار. فالتمويل، الذي تقدمه الكيانات المذكورة، هو قروض وليس منحاً. بينما تمويل الخسائر والأضرار يجب أن يكون في إطار المنح، وليس قروضاً، لأنها حق من حقوق تلك الدول، التي ليست مسؤولة عن تغير المناخ، وإنما ضحية له.

واعتبر الناشطون البيئيون أن "صندوق الخسائر والأضرار": أصبح على المحك، فإما أن تنجح الاجتماعات القادمة للجنة الانتقالية في إحراز تقدم يتم ترجمته إلى قرار في (كوب 28)، أو يصبح الإنجاز الذي تحقق في (كوب 27)، بإقرار الصندوق، مجرد استحقاق نظري لم تتم ترجمته على أرض الواقع.

ورغم أن الاجتماع الأول، لم يسفر عن إنجاز ملموس؛ فإن راشيل كليتوس، مديرة السياسات في برنامج المناخ والطاقة في  اتحاد العلماء المهتمين بأميركا، لا تزال متمسكة بالأمل في أن الاجتماعين القادمين قد يسفران عن شيء، معلنة: " ليس هناك وقت نضيعه، ويجب أن تكون كل القضايا محسومة قبل (كوب 28) ليتم إقرارها في القمة، ذلك لأن الدول المتضررة من تغيرات المناخ، تحتاج إلى التمويل العاجل، مع استمرار معدلات الاحترار في الزيادة.

فهل سيترجم مؤتمر دبي للمناخ وضع صندوق " الخسائر والأضرار"على أرض الواقع ؟

عرض مقالات: