المحاضرة التي قدمها منبر حوار التنوير مساء يوم الأربعاء الخامس والعشرين من شهر كانون الثاني الجاري بعنوان: الخروج من بابل والتي استضاف فيها الباحث القدير والمفكر التنويري الدكتور فالح مهدي، جاءت لتسجل قفزة نوعية في سلسلة محاضرات هذا المنبر العتيد التنويري فعلاً، بما يطرحه من مواضيع تداعب افكار الكثيرين، دون ان يجد السائل عن هذه الأفكار اجوبة شافية ترضي وجدانه وتريح ضميره بتفسير منطقي وواقعي وموضوعي لما يدور حوله من منغصات العيش وكوارث الحياة التي تكاد ان ترافقه في كل مفردة من مفردات حياته.

لقد نقلنا الدكتور فالح مهدي في محاضرته الشيقة الى اعماق التاريخ  الإنساني حينما عالج مراحل التطور الإنساني الذي بدأها بالأساس الذي قامت عليه حضاراته اللاحقة حينما اكتشف الزراعة التي بدأ بها اهم مرحلة من مراحل تطوره التي ربطته بالمكان والتخلي عن الترحال بحثاً عن جمع ما يشبع به جوعه في مرحلة الجمع من حياته، وما خلفها من ترحال آخر بحثاً عما يمكن ان يصطاده من الحيوانات التي كان الصراع بينه وبينها صراع بقاء او فناء.

لقد اجاد الدكتور فالح في طرحه لأهم حلقات هذا التطور الذي انتج المجالات الفكرية التي تحرك ضمنها الإنسان والتي افرزت له مدارات مختلفة حققت له اساليب حياته ومجالات تفكيره. وبما  انه ليس بالسهل واليسير ان يتمكن الباحث من التطرق الى كل مفردات هذا الموضوع الشائك في فترة زمنية قصيرة ومحدَدَة من قبل منظمي هذا اللقاء، إلا ان الدكتور فالح استطاع بقدرته المعرفية وإمكاناته العلمية ان يصل بالمستمع الى جوهر الفكرة التي اراد طرحها حتى ولو باختصار.

ما اثار انتباهي في هذه المحاضرة الجميلة والشيقة ان المُحاضر إتجه، تحت ضغط قصر الوقت، لأن يتجاوز بعض الشروحات المهمة المتعلقة بجوهر الموضوع والتي تشكل منطلقاً فكرياً هاماً لإستيعاب موضوع المحاضرة، خاصة لأولئك الغير مطلعين اطلاعاً كافياً على مسيرة التاريخ الإنساني في مراحل تطوره المختلفة.

إلا ان الذي اثار انتباهي ايضاً هو عدم استمرار هذا التحفط والإختصار من قبل الباحث الدكتور فالح مهدي حينما بدأ في القسم الثاني من الحوار بالإجابة على اسئلة المحاورين.

لقد تالق الباحث فالح مهدي في هذا القسم الثاني من اللقاء باجوبته العلمية الرصينة واطروحاته الفكرية التنويرية على كثير من الأسئلة المطروحة، والتي كان البعض منها، مغايراً تماماً لما تفضل به المحاضر.

لقد كانت اجوبته الرصينة والواضحة على الإختلاف معه حول ما طرحه عن ازمتنا مع الفكر الديني بشكل خاص، لتعبر عن مدى قوة السلاسل التي تكبل البعض حتى في هذا القرن المتطور من عمر البشرية. البعض الذي يجعل من الدين، خاصة ما يسمى بالأديان التوحيدية، وكأنها هي التي رفدت البشرية بكل ما يشكل اسس تطورها اليوم، ونافياً ما للعلم الذي، اختصره بمعادلة واحد زائد واحد يساوي اثنين على انه من الثوابت العلمية التي لا يختلف فيها اثنان في كل العالم، معتبراً ان العلم ذو ثوابت مفروضة، في الوقت الذي اعطى فيه للفكر الديني وتشريعاته صفة الشمولية والعقلانية التي قادت البشرية الى هذا المستوى من التطور الحضاري.

وكما ذكرت اعلاه فقد اجاب المحاضر القدير على هذا الطرح الذي وجد له اثنين من المؤيدين لإطروحات الفكر الديني، اجابات علمية مقنعة ورصينة قد لا يفهم مفرداتها بعض من ينقادون للإطروحات الدينية انقياداً عاطفياً يحاول البعض ان يطعمه بمشهيات يسميها حضارية او علمية او متطورة.

إلا انني ارغب في هذا المجال، مع الإعتذار للباحث القدير الدكتور فالح مهدي، ان اضع بعض الحقائق امام اولئك الذين لم يتجاوز تفكيرهم حدود الشرائع الدينية التي بين ايديهم الآن، ليتدبروا مصادرها، وهل يمكن البت في هذه المصادر على اساس احتمال وجود الخطأ فيها الى جانب ما يعتقدون بحقيقته المطلقة؟ انها، بالنسبة للإيمان الديني ثوابت عامة لا يمكن التطرق الى قدسية نصوصها. وهذا هو الفرق بينها وبين الثوابت العلمية التي هي ثوابت اليوم ولكنها يمكن ان تكون متغيرات الغد، حيث لا قدسية لحقيقة اليوم، ولا وجود للحقيقة المطلقة في مفهوم العلم ومعطياته، كما هو الحال في ثوابت الفكر الديني. وما معادلة واحد زائد واحد يساوي اثنين إلا معادلة علمية تخضع لمبدأ ثوابت اليوم ليس إلا. لقد اوضح لنا العلم في كل مراحل تطوره بانه قادر على التنكر لما وجده بالأمس وذلك بالنظر للمتغيرات التي جرت على هذا الموجود والتي دعت الى نفيه او تغييره وإحلال الجديد الذي سيخضع الى نفس الأسلوب العلمي في البحث عن الحقيقة النسبية. وهكذا يمكن سحب هذا النوع من النظرة العلمية ذات المتغيرات على كل ما يواجهنا في حياتنا اليوم وارتباطاً بكل التطورات العلمية المتاحة لإنسان اليوم.

ولينظر دعاة اهلية الفكر الديني للتطور والمساهمة في إغناء الحضارة الإنسانية بمفاهيم فكرية تنويرية الى ما عاشته الشعوب التي يسميها البعض بدائية، لينظروا الى طبيعة  علاقتها مع الطبيعة التي افرزت لها معتقدات صنفها إنسان ذلك الوقت حسب حاجته لنوعية هذه المعتقدات. فقد اوجد إلاهاً للمطر حينما وجد ان للمطر دوراً في انتاجه الزراعي بعد ان اكتشف الزراعة. كما اوجد قبل ذلك إلاهاً للرعد وآخر للنار بعد اكتشافه لها وهكذا تعددت آلهته التي جعلها تتنازع فيما بينها، حتى اصبحت الشعوب التي تنتصر على بعضها البعض تجعل من آلهة الشعب المنتصر إلاهاً  للشعوب المغلوبة شاءت ذلك ام ابت. كل ذلك يشير الى انه بالرغم من تعددية الآلهة التي كانت سائدة آنذاك ظلت مسالة القدسية ترافق الفكر الديني، تلك القدسية التي افرزت العنف والقتال ورفض الآخر، إذ انتقلت هذه العدوى بعدئذ الى ما يسمى بالاديان التوحيدية التي لم تتخل عن قدسياتها العنفية حتى بعد ان وجدت لها إلهاً واحداً جعلت اوامره المختلفة تطال اقوامه المختلفة التي ينادي كل منها بانفراده بالإنتساب اليه، جاعلين من هذا التخصص بالإنفراد ميادين حروب طاحنة طعامها الفقراء المنساقين عاطفياً لكل ما يمليه عليهم هذا المقدس.

الدين ايها السيدات والسادة المنقادون الى مقدساته التي لا يطالها النقاش ولا يجوز فيها الشك،  لم يساهم سابقاً ولا يساهم اليوم وسوف لن يساهم مستقبلاً في رفد الإنسانية بمفاهيم التنوير والتطور ما زال لا يستطيع الخروج من دائرة الثوابت التي لا نقاش فيها والتي تكبل العقل في حلقات مغلقة لا يجوز له الخروج منها، بعكس العلم الذي يلح على العقل بالتعامل اليومي مع ثوابته واكتشاف متغيراتها.

اما المداخلة الأخيرة للأستاذ نجم حيدر فقد كانت خاتمة المسك فعلاً والتي اغنت الموضوع علماً ونورت السامعين بفكر اكمل بحق ما جاء به المفكر الباحث الدكتور فالح مهدي. لقد جاءت هذه المداخلة فعلاً وكأنها تلخيص علمي رائع لما طرحه المُحاضِر. وهنا لابد لي من شكر الاستاذ الصحفي البارع في التقديم حسن حسين الذي ادار اللقاء بنجاح تام والذي سمح للمداخلة الفذة للأستاذ نجم حيدر بالرغم من انتهاء الوقت.

والشكر متواصل الى منبر حوار التنوير وكل الصديقات والأصدقاء القائمين عليه والمساهمين فعلاً بنشر الفكر التنويري الهادف وإشاعة الثقافة الإنسانية والسير في موكب الحضارة والتطور.

عرض مقالات: