في فجر يوم 24 / شباط من عام 2022 أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من خلال القناة الحكومية بياناً قال فيه، إزاء ما تعتبره روسيا تهديداً لأمنها الاستراتيجي، اتخذت قراراً بعد التشاور مع قادة الجيش وزعماء الاحزاب ومجلس الدوما (البرلمان) لتنفيذ عملية عسكرية خاصة في أوكرانيا ، وتولي موسكو أهمية قصوى للتطورات اللاحقة للمعركة ( فهي معركة من أجل مستقبل النظام العالمي ) ....وكان الخطاب قد اشار الى الجهود التي بذلتها روسيا لتسوية الخلافات مع اوكرانيا، وآخرها طلب روسيا لضمانات من الناتو بعدم ادراج طلب اوكرانيا للانضمام اليه، الا ان الغرب وامريكا، لا يعيروا أي اهتمام لمطالبنا، لا بل واستهزئوا بما نقول . الحال الذي لم يترك امامنا اي خيار، للدفاع عن أمن بلادنا وكرامة شعبنا .....

بدءًا ليس هناك بُد من القول إن الحرب هذه الكلمة  القذرة من الصعوبة بمكان أن تجد من يبررها، ولكن اهم ما يكمن في البحث، هو أيجاد جذر الحرب وبواعثها واسبابها، لا بقصد التبرير وانما بهدف عرض الحيثيات والوقائع دون انحياز، وفسح المجال للقارئ الكريم الاستنتاج وبالتالي الحكم على باعث وسبب الحرب، بمعنى التنوير وكشف الظلال الذي تلقيه اطراف الحرب على أسبابها، لغرض تشخيص الطرف المسبب للحرب وإدانته، وتعضيد الطرف الآخر، والحرب في أوكرانيا هي ليس استثناء في المألوف، ولم يُشَبْ أوارها ترفاً أو لعب بريء، وانما هي نتيجة لدواعي واسباب عجزّت ربما المساعي والحلول السلمية لتسويتها، عليه راحت تبحث في الحل العسكري، وعند مراجعة خلفية وحيثيات الحرب في أوكرانيا نجد أن بصمة الغرب في هذا السياق واضحة وجلية وخصوصاً المساعي والجهد الامريكي وبشتى الطرق والوسائل المشروعة وغير المشروعة يتجلى واضحاً منذ أيام تفكيك الاتحاد السوفيتي، بهدف تقويض روسيا والتي تعتبرها أمريكا الجناح العسكري للصين المستهدفة الرئيسية  في حرب الاستنزاف بقصد الاضعاف لفرض استمرار الهيمنة للقطب الواحد والوحيد على مقدرات الشعوب، وفي دائرة هذا الصراع تماماً تقع الحرب في أوكرانيا. وهنا اذكر كلمات المفكر الفلسطيني الدكتور عزمي بشارة في مقابلة مع قناة الجزيرة قال (لو وعد الامريكان روسيا بعدم ادخال اوكرانيا لحلف الناتو لما اندلعت الحرب).

ومنذُ نهاية الحرب الباردة بعد تفكك الاتحاد السوفيتي والعلاقات الروسية الاكرانية متعثرة ويشوبها عدم الثقة ونوبات من الازمة السياسية، والبحث في الازمات وتلبد الاجواء يدل دائماً ومن بين أمور أخرى على اصرار كييف إنكار كل ما يوحدها مع روسيا، في الوقت الذي يشهد التأريخ القريب بأن (روس كيفية (اوكرانيا)، وبيلي روسيا، وروسيا) هما شعب واحد. إلا أن سعي الغرب  ترك بصماته، ولاسيما الولايات المتحدة الامريكية، التي تثبت معاينة الاحداث ضلوعها في تأجيج الصراع ودفع اوكرانيا لمعادات روسيا، حيث أكد رئيس روسيا في خطاباته أن الدعم المالي الذي قدمته السفارة الأمريكية لمعسكر الاحتجاجات في ميدان الاستقلال في كييف بلغ مليون دولار يومياً، بالإضافة إلى عشرات الملايين التي توضع في حسابات قادة المعارضة، وذلك لاستخدام أوكرانيا ضد روسيا،  بهدف تطبيق استراتيجيتها في تطويق روسيا واجهاض نموها وتطورها كدولة عظمى تنازعها التحكم في أوضاع العالم لاحقاً ، واظهرت أمريكا بما لا يدعو للشك مجالاً، نيتها المبيته لروسيا عندما تنصلت عن كل تعهداتها التي قطعتها للسوفيت  في محادثات دمج الالمانيتين بين رونالد ريكن رئيس أمريكا وميخائيل كورباتشوف رئيس الاتحاد السوفيتي وقتذاك ، فخلافاً لكل التعهدات ، توسع حلف شمال الاطلسي شرقاً وضم ثلاثة جمهوريات سوفيتية سابقة هي: لاتفيا مولدافيا استونيا، بالإضافة الى جمهوريات حلف وارشو السابقة ، في الوقت الذي كان يفترض حل حلف شمال الاطلسي بعد أن جرى حل حلف واشو، حيث تكّون الاول ليقابل الحلف الثاني 

كما يقتضي تفهم سياق حيثيات النزاع بين أوكرانيا وروسيا الى معرفة نوعين من الخلافات، الاولى خارجية وهي الأهم:

 1- طلب أوكرانيا الانضمام الى حلف الناتو الامر الذي ترفضه روسيا.

 2- تقديم طلب للانضمام للاتحاد الاوربي.

 3- التوجه لا نتاج السلاح النووي. والاسباب الداخلية تتمحور حول اضطهاد اوكرانيا للقومية الروسية وتركت ارث الاتحاد السوفيتي بعد تفككه، حيث جرى الاتفاق بين دول الاتحاد السابقة ان تتقاسم ديونه الخارجية والبالغة 100 مليار دولار امريكي، وكل حسب امكانياته الاقتصادية، وبعد أن عجزت الجمهوريات السابقة سداد نصيبها من الدين، جرى الاتفاق على ان تسدد روسيا لوحدها ديون الاتحاد السوفيتي مقابل السيطرة على كل الديون والاصول التي تعود للاتحاد في الخارج، إلا ان أوكرانيا عادت تطالب روسيا بحصتها في ممتلكات الخارج دون الجمهوريات الاخرى، رغم انها لم تدفع شيئا من ديون الاتحاد السوفيتي الى الخارج، وتركت روسيا لوحدها تسدد الدين حتى انتهى في عام 2017 مع ذلك كانت روسيا تراعي وتداري وتتفهم في سياستها مع أوكرانيا نزوع الاخيرة الانصات إلى اعلام الغرب  المغرض. لا بل تعلم موسكو بأن جنود من دول أوربا وامريكا يتدربون على الاراضي الاوكرانية وتسميها أوكرانيا بعثات عسكرية وليس قواعد في واقع الحال، ورغم ذلك ظلت روسيا تساعد اوكرانيا حتى بلغت مساعداتها الى 250 مليار روبل منذ 1991 حتى 2011 ووصل التبادل التجاري 50 مليار دولار وهو الرقم الذي يزيد على تجارتها مع بلدان اوربا.

ولغرض تبديد مخاوف أوكرانيا التي يثيرها الاعلام الغربي، من سياسة روسيا (التوسعية) عقد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع رئيس أوكرانيا يانوكوفيتش إتفاقاً اقتصادياً في 17كانون الأول 2013  لمساعدة أوكرانيا، حيث يقضي الاتفاق أن تشتري روسيا سندات أوربية أوكرانية بمبلغ 15 مليار دولار أمريكي، أي ما يعادل 495 مليار روبل، على حساب صندوق الرعاية الوطنية ، وتقرر أيضاً أن ينخفض سعر الغاز الروسي للمستهلكين الأوكرانيين إلى 268,5 دولاراً لكل ألف متر مكعب ،اعتباراً من الأول من كانون الثاني عام 2014 بعد أن كان سعره سابقاً 400 دولار، ومع ذلك وحتى بعد توقيع الاتفاق مع روسيا ، صرحت القيادة الأوكرانية مراراً بأن مسار البلاد نحو التعامل الأوربي (لن يتغير) بالرغم من تأكيد روسيا التي لا تنفك عن التذكير بأن أوكرانيا ليست مجرد دولة جارة وحسب وانما تعتبرها جزء لا يتجزأ من تاريخها وتراثها وثقافتها، وعليه تعطي أهمية كبيرة لصلات الدم والروابط العائلية بين الروس والاوكرانيين، قبل تأسيس جمهورية أوكرانيا على يدّ البلاشفة. 

كما أن من جدير القول أن الجانب الاقتصادي يكمن دون ريب أو شك في جذر هذه الحرب، حيث الخوف من استمرار توسع روسيا بتجهيز اوربا بالغاز الذي يقل سعره ب 25% عن سعر الغاز الامريكي ، والبترول هو مصدر الطاقة الثاني، وهذا المصدر ارتفع من 40% قبل عشرة أعوام إلى 55% قبل 6 اشهر فقط، اما الغاز الروسي الرخيص فقد ارتفعت نسبة تصديره الى أوربا 53% اضف اليه استيراد الحديد والاسمنت والقمح وغيرها حتى جاوزت صادرات روسيا الى اوربا 458 مليار دولار، حسب نشرت الاخبار الاقتصادية في فضائية RT الروسي باللغة العربية، اما الشركات الصينية التي جاوزت مبيعاتها الى اوربا 480 مليار دولار امريكي راحت تشارك الشركات الاوربية ثم انتقلت من الاستثمار الى شراء كامل اسهم الشركة، في دولة السويد مثلاً تبيع محلات   ROSTA  العملاقة المنتشرة في كل ارجاء البلاد بضائع صينية فقط ، وقسم سيارات الصالون لشركة سكانيا الشهيرة اصبحت ملكا للشركات الصينية، والتي لا تستورد من اوربا بأكثر من86 مليار دولار، وهذا التمدد لتجارة الصين أخذ الاولوية في بلدان المغرب العربي الجزائر وموريتانيا وليبيا والثالث في المغرب والقائمة تطول، وهذا الحال لا يناسب اطلاقاً طموح ومصالح الاحتكارات الامريكية ( مصالح أمريكا )، عليه من جدير القول إن المحرك الرئيسي لهذه الحرب والرابح الأوحد فيها هي الاحتكارات الغربية وخصوصاً الامريكية منها واكبر الرابحين هو المجمع الصناعي العسكري الامريكي، والذي تعاقد مع وزارة الدفاع الامريكية ان يبيعها أسلحة ومعدات عسكرية بما قيمته قرابة ترليون دولار امريكي، ستدفعه الخزينة الامريكية لخزائن الاحتكارات من أموال الضرائب التي تأخذها من عامة الشعب الامريكي، ثم تعمد الشركات الى رفع اسعار السلع الاستهلاكية، دون مبّرر غير حجة الحرب الذي هم فجروها خدمةً لمصالحهم التي لا تأبه بحرمان وعذابات الناس من الحروب ولا يقيمون وزناً للشرف والكرامة والسيادة الوطنية وغيرها من المفاهيم الانسانية والاجتماعية العليا ، وما يهم رأس المال أن يربح في كل دورة إنتاج ولا غير البتة ، ليس هذا وحسب وانما تعتبر الاحتكارات مصالحها هي أساس مصلحة البلاد وبذلك تصوغ قوانين وشرائع البلاد خدمةً لمصالحها في المقام الاول، رغم ان اعلامها يحاول أن يصور تسمية النظام الرأسمالي على انه اشتقاق من كلمة ألرأسمالية،  ليغطي على حقيقة ان البناء الفوقي لنظام الدولة الرأسمالية وقوانينه مبرمج لخدمة رأس المال وشركاته الرهيبة، من هنا تأتي عبارة النظام الرأسمالي، بمعنى نظام يثبّت ويلبي مصالح أصحاب رؤوس الأموال، وبما أن الحكومات في الغرب بقيادة الولايات المتحدة الامريكية لا تقود الاحتكارات، وانما الاحتكارات هي التي توجه الدولة وسياستها الخارجية خصوصاً. فأن النزاعات وبؤر التوتر والحروب حتمية ولا ندحة منها ما ضل نظام رأس المال قائماً فهو ينتج الحروب والمآسي والموبقات وكل ما يقبح وجه العالم بالضيم والحزن. وما هو جدير بالفهم أن الحروب والمآسي هي ليست حالة غريبة على المجتمع وعلى مرّ العصور، فالحرب هي ظاهرة نشأت مع ظهور التجمعات البشرية بعد أن تعلم الناس الزراعة وتدجين الحيوانات، ثم توطنوا في اصقاع الارض الغنية بالماء والخضرة، حيث راحت وقتذاك تغزو بعضها للبعض الآخر والسيطرة على الاموال والرجال والاراضي، ومع تطور المجتمعات تتطور معها ادوات الحرب ووسائل القتال، حتى وصلت آلة الحرب الى القدرة على فناء البشرية بدقائق معدودة. لذلك حرمت قوانين الأمم المتحدة حل النزاعات بين الدول بالطرق العسكرية، كون القدرة التدميرية للأسلحة والتدريب العالي للجيوش، جعل الحرب بين جيشين أو اكثر يضرّ بالغ الضرر بالطبيعة وبجهد المجتمعات لعقود من البناء والتطور. عليه أمست الشعوب تناهض الحرب وما جرّته وتجرّه من مأسي على البشر وتعدّها ابشع الاحداث التي بشّعت وجه التأريخ على مرّ آلاف السنين.

بيد أن الحروب ولشديد الأسف، ستظل ليست واردة الحدوث وحسب، بل وحتمية مازالت هناك طبقات محرومة وطبقات لا تسد رمق العيش بالكاد، وهناك القلة القليلة التي تملك اكثر من ما تمتلكه مئات ملايين البشر. وما زالت وسائل الانتاج المادي وادوات العمل بمن فيهم قوة عمل الطبقة العاملة، بيد طبقة واحدة، وهي تتحكم بكمية الانتاج وفق قدرة البيع المحكوم بقانون الربح. وما ضل الانتاج خاضع لقدرة الناس الشرائية، وليس لحاجاتهم الضرورية، أي ان عرض البضاعة خاضع لطلبها. ومقابل ذلك يزداد طردياً مع الوقت، وعي الناس لهذه الحقائق المؤلمة التي تسبب حرمانهم من العيش الكريم، هنا يصبح الكفاح من اجل العدالة الاجتماعية ومحاربة الظلم حتمياً ولا منه مناص وبأساليب متعددة حسب ممكنات الكفاح ومتطلباته. وبقدر ما يتقدم وعي الطبقات المسحوقة لطبيعة وجودها الاجتماعي وتعي ذاتها، بقدر ما تقترب من حل التناقض الرئيسي بأسلوب ما يعلن عنه في حينه في علاقات الانتاج، وهو التناقض بين الطبيعة الاجتماعية للإنتاج و الملكية الخاصة لوسائل الانتاج. وهذا الصراع الطبقي، يتجلى مأسي وكوارث وحروب نفسية وإعلامية وحروب قذرة كيمياوية وبايدلوجية وحرب عصابات وحروب مياه...

والخطوة الاولى في هذا الطريق هي: تعدد القوى المتحكمة في النظام الكوني وغياب تحكم القطب الواحد، الذي أجرم بحق الشعوب تحت مسمى الحرب الاستباقية التي أحرقت شعوب العراق وأفغانستان وسوريا واليمن وليبيا وغيرها، وهذا البعد المستحدث الناتج عن نزعات دولية جديدة هو الذي اسبغ على مسمى الحرب الاستباقية الشرعية. باعتبارها دفاعاً عن النفس، وتوجيه ضربة استباقية ( تسمى الضربة الإجهاضية ) التي تقع على قوات العدو التي نشرها فعلا في أوضاع هجومية استعداداً لهجوم فعلي، فتأتي هذه الضربة بقصد إفشال هذا الهجوم، وتختلف الحرب الاستباقية عن الحرب الوقائية فالأولى تكون في حالة وجود دلائل مادية تبين حجم الخطر وضرورة التصدي له، عكس الثانية التي تعني الوقاية من اعتداءات مستقبلية متخيلة وليس محتملة، ونجد ان أمريكا هي اول دولة طبقت فكرت الحرب الاستباقية منذ اعلان مبدأ مونرو عام 1823 والذي اعتبر امريكا اللاتينية مناطق نفوذ لأمريكا. خلاصة القول مازالت الولايات المتحدة الامريكية سادرة في غيها وتمسكها بكرسي زعامة العالم، ستظل تنتج الحروب والكوارث لبني البشر. بيد ان عدم هزيمة روسيا في الحرب، سيفتح طريق تعدد القطبية في السياسة الدولية، ويدخل العالم في طور جديد خالي من اضطهاد القطب الواحد ويشجع سياسة الدول على اختيار الطريق الذي تريده دون الانصياع لإرادة  خارجية ....ومن بين أمور أخرى تترتب على عدم فرض إرادة امريكا والغرب على روسيا، هو اهتزاز ثقة الغرب بقوة امريكا الحال الذي يقودها الى التفكير ببناء حلف عسكري اقتصادي مستقل يمكن لروسيا القوية دوراً فاعلاً فيه، كما أن فسح المجال في ظل عالم متعدد الاقطاب للدول النامية أن تجد طريقها بنفسها، وتكون مسئولة عنه أمام  شعوبها وقواها السياسية حيث لا تجد هناك عذرا او حجة بوجود قوة خارجية تجبرها عل السير في طريق هي لا تريده، عموم الحال الذي يدفع المجتمع  الدولي للتطور الذاتي وارساء عوامل المسير الايجابي المعبد بالتضامن في العيش المشترك الخالي من سيادة القطب الاوحد الآمر الناهي والتخلص من ظنك العيش في كنفه البائس .  

عرض مقالات: