اليسار في اميركا اللاتينية يتصدر المشهد السياسي بوجوه شابة وصلت إلى السلطة وأخرى واعدة، ووجوه مخضرمة استطاعت التكيّف مع المتغيرات الجيوسياسية العالمية، حيث بدلَّت اساليب المواجهة مع أنظمة اليمين من عسكرية ثورية إلى سياسية اجتماعية، تحسم نتائجها صناديق الاقتراع.  الذي يميز شعوب أمريكا اللاتينية عن غيرها من شعوب العالم ، هو أن شعوبها تخوض نضالاً سياسياً واقتصادياً وفكرياً أصيلاً ,ولديها تراث ومخزون نضالي يُشكِّل رافداً قوياً  يتفاعل مع الحاضر، وهي متحررة اجتماعا لا تشهد أي انقسامات دينية أو اثنية أو قبلية، مما يجعلها استثنائية في هذا المجال، وتتمتع بمزايا ستجعلها ولفتره طويله تتصدر العملية الثورية العالمية، الشيء الذي تعلمه الولايات المتحدة ويزيد من قلقها ويفرض عليها الانكفاء نحو القاره علَّها تستطيع تأخير موجات أخرى من الرفض  لسياساتها ونفوذها، ستشكل خطوة إلى الأمام، ستليها موجات أكثر جذريه، كما حصل في شيلي، ومن المتوقع أن تليها البرازيل وكولومبيا، وهذا يملي على القوى التي بوصلتها الاشتراكية العلمية، أن تعد برامجها وتشحذ قواها كي تكون البديل الثوري في "التطور التاريخي "، لتحل مسألة فشل "الاصلاحيين الاشتراكيين" في تحقيق أمال الجماهير، في إقامة "الاشتراكية" فهم لا يفشلون فقط في إقامتها، بل يشوهوا صورتها ويلوثوا مبادئها ويجعلوا منها فكرة رومانسية غير قابله للتحقيق، مما يؤكد أن الإصلاحية في نهاية المطاف هي برجوازية معادية للاشتراكية العلمية يكتشف البعض طبيعتها بعد فوات الأوان.

أمّا الولايات المتحدة فقد فشلت في تحجيم اليسار في المكسيك، حيث تم في يوليو/ تموز 2021، انتخاب أول رئيس اشتراكي في تاريخها الحديث بأغلبية ساحقة، هو لوبيز أوبرادور، خلفاً للرئيس اليميني انريكي بينيا نييتو. و فشلت في الإطاحة بالرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو رغم محاولاتها العديدة والمستمرة الى اليوم، والحصار الاقتصادي الذي فرضته على فنزويلا، وتبنّي المعارض خوان جوايدو، والاعتراف به (رئيساً). وفشلت أيضاً في الإطاحة بالنظام الكوبي الذي يتعرض لأشد حصار اقتصادي وسياسي منذ ستينات القرن الماضي.  إن عودة اليسار إلى أمريكا اللاتينية، في بوليفيا والبيرو والمكسيك، وانضمام هذه الدول إلى كوبا وفنزويلا، سوف يشجِّع بلا شك شعوباً أخرى على خيارات غير يمينية، بعد أن أثبتت هذه الخيارات فشلها في تحقيق العدالة الاجتماعية التي تمكّن شعوب القارة الأمريكية من استعادة ثروات بلدانها المنهوبة، والتخلص من سياسات اقتصادية فاشلة لم تنتج إلاّ الفقر والفساد والخضوع للهيمنة الأميركية. إن سياسة واشنطن كانت العامل الأول لصعود اليسار في أمريكا الجنوبية، ذلك أن مواطني وساسة الدول اللاتينية بدأوا يدركون أن اهتمامات الجار الأكبر في قارتهم باتت تقتصر على ما يهم المصالح الامريكية وليس المصالح المشتركة، فاهتمامات واشنطن تكاد تتركز في مكافحة المخدرات، وتأمين الممرات المائية الاستراتيجية لسفنها وناقلاتها، ووارداتها من المعادن والثروات الطبيعية، وحماية وتعزيز مصالح الشركات الأمريكية، ومواجهة أي توجهات يسارية تظهر في دول القارة تراها واشنطن. والعوامل السياسية ولا سيَّما التدخلِ الأمريكي، والعوامل الثقافية وأهمُّها القضاء على ثقافات السكان الأصليِّين، بل القضاء عليهم في بعض الحالات، والعناصر التاريخية المرتبطة بذاكرة التاريخ الاستعماري للمنطقة، والعناصر الاقتصادية؛ جعلت الوطنية محورًا مركزيًّا في الفكر الثوري. وقد أظهر اليسارُ في أمريكا اللاتينية من قَبل أن تقلبَ الحرب الباردة الموازين، نزعةً ملهِمة، تجلَّت في الـمُثُل العليا لسيمون بوليفار التي لم يطوِها النسيان؛ بل أُعيدت صياغتها وَفق الفكر لسكَّان أمريكا الأصليِّين الذي ينادي بالعودة لأمريكا ما قبل الاستعمار الغربي.

لقد وصلت الأنظمة اليسارية الجديدة في أمريكا اللاتينية إلى الحكم بطريقة ديمقراطية، واستمرت في الحكم بتأييد قطاعات واسعة من شعوب دول القارة، وبانتخابات قمَّة في الشفافية والنزاهة، وأي نظام حكم في أي مكان يقوم على اختيار شعبي حر، وينصاع للإرادة الشعبية ويحترم رغباتها، لا يمكن وصفه تحت أي تقييم أو تنظير انه استبدادي أو شمولي كما تحاول أن تصفه واشنطن ومعها الدول السائرة في رَكبَها.

في تشيلي بدأت مؤشّرات الصّعود اليساري عام 2021وذلك حين تقدّمت قوى اليسار بنسبة 33% مقابل 21% لقوى اليمين الحاكم في انتخابات الجمعية التأسيسيّة لصياغة دستور جديد (لاستبدال الدّستور الذي كُتب في عهد الديكتاتور اليميني بينوشيت). ويبدو أنّ نشاط بوريك وكفاءته وعمله الدؤوب دفعت اليسار في تشيلي، ومن ضمنه الحزب الشيوعي، إلى الإجماع على اختياره كمرشّح للرئاسة في مواجهة قوى اليمين التي تُسيطر على البلد منذ عقود. حيث فاز مرشح حزب "التقارب الاجتماعي" اليساري، غابرييل بوريك بالانتخابات الرئاسية، ليعيد حكم اليسار إلى البلد بعد الانقلاب الأمريكي على الرئيس سلفادور ليندي في مطلع سبعينيات القرن الماضي. سبق هذان الانتصاران عودة اليسار إلى بوليفيا بعد الانقلاب الذي نفذته الإمبريالية الأمريكية ضد الرئيس المقاوم إيفو موراليس، فقد عاد حزب موراليس "نحو الاشتراكية" إلى سدة الرئاسة بانتصار رفيقه لويس آرسي (وزير الاقتصاد في عهد موراليس) في انتخابات أكتوبر/ تشرين الأول 2020، كما عجزت الولايات المتحدة عن الإطاحة بخليفة هوجو شافيز في فنزويلا الرئيس مادورو. وفي هندرواس فازت زيومارا كاسترو زعيمة حزب "ليبري" اليساري عام 2021، في أكبر دولة في أمريكا الوسطى، وهي زوجة الرئيس اليساري السابق مانويل زيلايا، الذي أطاح به انقلاب في العام 2009.

 تباين التجارب في اميركا الجنوبية ارتباطاً بظروف وإرث وتطور الحياة السياسية والقوى المؤثرة في البنى الاجتماعية – الاقتصادية في كل بلد من بلدان أمريكا  اللاتينية، والدروس الخاصة أو العامة  المستخلصة من بعض النماذج ، تُحتم علينا أخذها بعين الاعتبار عند قراءة مشهد الصعود الجديد لليسار في أمريكا اللاتينية، الذي يتميز بتنوع واتساع طيفه من جهة، وتجديده لذاته وصياغة برنامجه بواقعية تلامس احتياجات وأولويات الجماهير الاقتصادية والاجتماعية من جهة أخرى، دون إنكارٍ لعوامل تأثير خارجية مصدرها التحولات التي شهدتها قوى اليسار في العالم وبشكل رئيسي اليسار الأوروبي، بسبب هامش الديمقراطية الواسع الذي هيَّأَ بيئة سياسية اجتماعية لإعادة تَشكُّل فكر وهيكلة وبرامج عمل اليسار الجديد المنحدر من التيار الشيوعي والاشتراكي التقليدي التاريخي.الاّ انه مما لا جدل فيه ان التيارات اليسارية الجديدة في أمريكا الجنوبية ارتبطت بحركة العولمة البديلة في بعدين أساسيين جوهريين هما, الخطاب المناوئ لليبرالية الرأسمالية المتوحشة ولهيمنة الولايات المتحدة على النظام الدولي. ففي حين كانت الحركات الاجتماعية التقليدية حاملة لمشروع وطني يرتكز على بناء دولة قومية قوية، فان التيارات الاحتجاجية الجديدة تتمحور حول مطالب المجموعات المنشقة المحلية التي ترفع اما شعار التميّز العرقي والثقافي والخصوصية الحضارية كما هو شأن حركات السكان الأصليين في بوليفيا والايكوادور والمكسيك؛ والمابوش في تشيلي والارجنتين، او شعار الحفاظ على البيئة ورفض النموذج الرأسمالي لاستثمار الطبيعة وتعنيفها.