ظلت شفافية ونزاهة العملية الانتخابية لعقود طويلة واحدة من أهم مزايا ديمقراطية الدول الرأسمالية الغربية ، حتى أضحت مضرب المثل دوليا في ذلك، ولعل الولايات المتحدة الأكثر تباهياً بهذه " المزية " على الساحة الدولية، مع  أنها هي أكثر الدول الرأسمالية في عيوب مضامين تشريعاتها من الوجهتين السياسية والاجتماعية، وذلك لما ينطوي عليه نظامها الانتخابي من مخرجات مصممة لخدمة مصالح البورجوازية الكبرى بكل قطاعاتها والمهيمن على مفاصل الاقتصاد الوطني للبلاد برمته ، مما يتنافى مع مفهوم وجوهر الديمقراطية بأبعادها السياسية والاجتماعية الشاملة.

 لكن وبغض النظر عن تلك الثغرات، فإن من إيجابياتها ارساء تقليد يتمثل في مسارعة المرشح الخاسر بتهنئة المرشح الفائز بروح رياضية، ما يعني إقراراً ضمنياً منه بنزاهة العملية الانتخابية وشرعية فوز منافسه. وظل هذا التقليد العريق مثار إعجاب لشعوب العالم التي تفتقر أنظمتها لأي شكل من أشكال الديمقراطية أو تنعم في أحسن الأحوال بديمقراطية صورية كسيحة متعثرة تحت قبضة أنظمة تلك الشعوب. 

وكان آخر صور ذلك التقليد في الولايات المتحدة ما جرى في مثل هذا الوقت من خريف عام 2016، وتحديداً غداة إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية، حيث وقفت المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون لتعلن - بابتسامة مفتعلة - أمام جمهورها معترفة  بخسارتها في السباق الانتخابي قائلة :  إن النتيجة أظهرت وجود انقسام عميق في بلدها أكثر  مما توقعته،  لكنها أكدت في الوقت ذاته على أهمية قبول النتيجة كقيمة ديمقراطية مقدسة على حد تعبيرها،  معترفة ضمنياً بفوز منافسها الرئيس الجمهوري الحالي الخاسر في الانتخابات الأخيرة دونالد ترامب،  في حين هذا الأخير مازال ينكف عن الاعتراف بخسارته و بمشروعية فوز غريمه الديمقراطي جو بايدن في الانتخابات الأخيرة، ومشككاً في نزاهة وحيادية العملية الانتخابية. 

بيد أن كلينتون - الإبنة  الشرعية للنظام الرأسمالي الأميركي - إذ أقرت بوجود انقسام عميق في المجتمع فقد جاء اقرارها في ضوء نتائج الانتخابات التي أظهرت هزيمتها، وهذه النتائج  بطبيعة الحال لا تعكس بالضرورة ذلك الانقسام إلا جزئياً، أي في حدود المخدوعين بعدالة اللعبة الديمقراطية المتقادمة دهراً،  وليس كمن يرى الانقسام من خارج النظام، فلو كانت حقاً تنظر إلى الانقسام من خارج النظام وبرؤية  سياسية بعيدة النظر لأدركت أنه أعمق بكثير مما تخيلت، وهو الآن أعمق وأعمق، بما أنه  انقسام يعبر عن تناقضات طبقية تاريخية منذ تشييد النظام السياسي، وحيث فشل  منذ أمد غير قصير في أن يكون ضابطاً للصراعات الاجتماعية - الطبقية - ،  وهو ما تعشم  له  " آباؤه المؤسسون " بأن يحقق هذه الوظيفة بغية ارساء السلم الاجتماعي الدائم بعيداً عن  احتدام التناقضات الطبقية المهددة لمصالح الرأسماليين. الآن وقد دق أول امبراطور غير متوج رسمياً للرأسمالية الأميركية بوجهها الحقيقي، ألا هو الرئيس الخاسر ترامب، مسماراً في فقاعة تلك الديمقراطية المتضخمة فقد سرع بذلك بتحويل إشهار فشل النظام في وظيفة ضبط الصراعات الطبقية إلى فضيحة عالمية مدوية، رغم محاولة تلوينها بصراعات عرقية ودينية وخلافها بحيث تخفي جوهرها الطبقي، وبالتالي فقد غدا إصلاح " النظام إصلاحاً راديكالياً ضرورة ملحة، ما دامت " الثورة " متعذرة ولم تأزف شروطها الذاتية والموضوعية بعد. فمثل هذا الإصلاح حيثما توفر في أي بلد من العالم من شأنه أن يمهد الأرضية لانتقال سلمي سلس للسلطة ويجنب الحاجة للثورة أداة التغيير الأكثر خطورة على الشعب والنظام معاً في زعزعتها للاستقرار والسلم الاجتماعيين بصورة أشد، وبخاصة إذا ما جاءت الثورة عنيفة غير مأمونة العواقب قد يطول معها تحقيق الاستقرار معها. فهل يتحقق ذلك على المدى القريب؟ ذلك ما سيتبين لنا خلال الأشهر القليلة القادمة.

  وفي كل الأحوال نستطيع القول إن النظام الرأسمالي قد دخل في نفق مأزق تاريخي حقيقي متعدد الأوجه سياسياً واقتصادياً واجتماعيا، ومن الصعب التنبؤ بمداه راهناً. 

عرض مقالات: