يُسمي الامريكيون سياسة ترامب، الذي خسر الانتخابات بالبطة العرجاء، ورغم أنه لازال في السلطة لحد الآن، يحاول فيها انتهاز الفرصة للوفاء بأحد وعوده في حملته الانتخابية، فقد أمرَ غالبية القوات الاميركية بالانسحاب من أفغانستان وسحب500 جندي من العراق، وفي وقت سابق أقال وزير دفاعه من منصبه، الذي كان ضد القرار، ومن جانب آخر حذر رئيس حلف الناتو ينس ستولتنبرغ من (خلافة إرهابية) يمكن أن تظهر في أفغانستان،وقد وصف زعيم الجمهوريين في مجلس الشيوخ ميتش ماكونيل والمعروف بحرصه الموالي لترامب،واصفاً القرار بالخطأ.
جو بايدن أعلن في حملته الانتخابية أنه سيقلل من وجود القوات في أفغانستان والعراق على المدى الطويل، وهو يؤيد كما يشير الخبراء في هذا المجال بأتباع خطة البنتاغون الاصلية والعودة الى السياسة الخارجية الاميركية التقليدية، وكان هو أحد المؤيدين الرئيسيين لحرب العراق وله علاقات جيدة مع اوساط صناعة السلاح، وفريقه الذي قدمه مؤخراً للبنتاغون يتكون من خبراء، عمل العديد منهم في عهد أوباما.
فهل سيعود بايدن الى النمط القديم للسياسة الخارجية بما فيها التدخل العسكري؟ وهل أن الجمهوري اليميني ترامب هو حقاً معارض للحرب، أم أن سياسته مجرد تعبير عن علاقات قوة عالمية جديدة؟
الخبراء يرون أنه لفهم السياسة الاميركية، من المفيد ألقاء نظرة الى الماضي، فعلى مدى عقود كانت السياسة الخارجية الاميركية تتميز بالإجماع المستقر بين الاحزاب، وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية أتفق الطرفان على أنه يتعين على الولايات المتحدة ان تتبع بقوة سياسة عالمية من أجل هزيمة الشيوعية.
في ثلاثينيات القرن الماضي شن(الانعزاليون)في الحزب الجمهوري حملة ضد دخول الولايات المتحدة الحرب تحت شعار (أمريكا أولا) ومن هؤلاء الكثير، الذي تعاطف مع الفاشية.
ولكن بعد الحرب تم تهميش الانعزاليين في الحزب الجمهوري،ومنذ ذلك الحين كان الجمهوريون أقوياء بشكل خاص في محاربة الاتحاد السوفييتي وبعلامتها التجارية المعروفة ،المتمثلة ب نيكسون وريغان،حيث كانت الولايات المتحدة تستفيد من النظام الليبرالي حتى بعد نهاية الحرب الباردة وأسست مؤسسات لهذا الغرض بشبكة من السياسيين الاجانب المحترفين الذين ينتقلون بين الحكومة ومراكز الفكر وشركات الاسلحة وهم يشتركون بشكل اساسي في رؤية عالمية مشتركة،يتوجب ان تكون الولايات المتحدة سياسياً وعسكرياً رائدة العالم من أجل الدفاع عن(النظام الليبرالي العالمي)وتوسيعه .
وفيما أذا أنسحبت الولايات المتحدة من هذا الدورعلى سبيل المثال كما يرى الخبراء، أضعاف الناتو أو التشكيك بنظام التجارة العالمي وحمايته، فسيكون خطرا عدم الاستقرار وصعود أنظمة أستبدادية، تكون فيها مهمة الولايات المتحدة هي محاربة معارضي هذا النظام الليبرالي وابقاءهم صغاراً والذي يصفهُم (بالدول المارقة) وكذلك القوى التحريفية مثل (روسيا)، التي لاتنسجم مع النظام الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة لتحافظ على مجال نفوذها الخاص بها.
ويُسمي خبراء السياسة هذه( بالاستراتيجية الرئيسية للهيمنة الليبرالية )كونها تمثل المصلحة القومية للولايات المتحدة في إقامة نظام ليبرالي قائم على الافكار الامريكية في جميع أنحاء العالم قدر الامكان ،ومنذ بداية التسعينات شمل النظام الاقتصادي إنشاء منظمة التجارة العالمية على سبيل المثال وتعزيز الديمقراطية والتدخلات (الانسانية) وتوسيع حلف الناتو ونظام العقوبات ضد الدول المارقة مثل العراق، وأندماج الصين في الرأسمالية المعولمة،كونها الدولة الاقوى أقتصادياً وعسكرياً،ستكون فيها الولايات المتحدة تلقائياً في القمة في هذا النظام المفتوح،وهكذا كان الاعتقاد والاجماع بين الاحزاب ،ولكن منذ فشل مايسمى الحرب ضد الارهاب وصعود الصين،مما أدى الى التساؤل المتزايد مرة أخرى وكما في الثلاثينات بالاتجاه الانعزالي القومي بين الجمهوريين،برز فيها (باتريك بوكانان)عام 1992والذي حاول أن يصبح مرشحاً جمهورياً للرئاسة،وممثلاً للقوميين المحافظين المعادي للمهاجرين،والذي وقف أيضاً ضد التجارة الحرة كي تلعب الولايات المتحدة دور (الشرطي العالمي)،ولم يستطع هذا الاتجاه ان يسود،وبدلاً من ذلك وبعد الهجمات الارهابية في 11 سبتمبر 2001،تمكن جورج دبليو بوش مرة اخرى من الجمع بين القومية المحافظة والطموحات الامبريالية العالمية.
وبعد أن أصبحت العولمة تهدد أكثر فأكثر العديد من الناس في الولايات المتحدة تمكن الاتجاه (الانعزالي) مع ترامب من الانتصار مرة اخرى، خالف فيها الاجماع السابق حول السياسة الخارجية في الحملة الانتخابية الاخيرة، وفي خطاب مفتوح وقف أكثر من 70 من صناع السياسة الخارجية الجمهوريين السابقين خلف جو بايدن.
لم يظهر ترامب قط كونه عدواً للحرب، بقدر ما أزعجته حروب الشرق الاوسط، كونهم خسروا، وأنهم (لم يأخذوا النفط) من وجهة نظره، ومن الناحية العملية فقد حكم غالباً كمحافظ جديد عدواني، على سبيل المثال من خلال الضغط على فنزويلا وروسيا وتأجيج الصراعات، كما فكر قبل أيام في شن ضربات جوية ضد أيران، ووفقاً لصحيفة نيويورك تايمز، وخلال حكمه زادت الميزانية العسكرية بشكل كبير.
مع صعود الصين،وقعت أستراتيجية الولايات المتحدة في أزمة ،وشكك ترامب في إجماع السياسة الخارجية الاميركية،خاصة على المستوى الايدولوجي،وصادفت في كثير من النواحي أبواباً مفتوحة كانت (استراتيجية الهيمنة الليبرالية ) قد دخلت بالفعل في أزمة أمامه بسبب الحروب الضائعة،ولكن ايضاً بسبب الانحدار النسبي للولايات المتحدة وصعود الصين،وسيتعين عليها على المدى الطويل الانسحاب من الشرق الاوسط ،والتركيز على الصين والسيطرة على العولمة وتنظيمها بشكل اكثر وعياً من أجل الحفاظ على تفوقها الصناعي والتكنولوجي،وكان هذا هو أعتقاد الرئيس الديمقراطي أوباما،لكن ترامب عبر عن ذلك بقوة وشدة واصبح هناك اجماع بين الحزبين في موقف مناهض للصين .
ويصوغ جو بايدن أستراتيجيته في سياسة خارجية تقليدية، فهو يريد الاعتماد على التحالفات والتعددية، حيث تعني السياسة التقليدية أيضاً الهيمنة العسكرية، والتدخل في حالة الشك، بينما يتأرجح الجمهوريون بين الصقور التقليديين وقومية ترامب الانعزالية ومنذ توليه السلطة تشدد رفض اليمين للسياسة الخارجية الامريكية السابقة.
مثلَ كلا الحزبين لفترة طويلة إجماعاً مشتركاً بشأن السياسة الخارجية، وقد تأسس عام 2019 معهد كوينسي لفن الحكم المسؤول وربما أول مركز أبحاث للسياسة الخارجية، الذي يرفض بشكل اساسي السياسة الخارجية التقليدية والتوسعية للولايات المتحدة ويدعو الى (ضبط النفس) والممولة من قبل الجناح اليميني وأيضاً من مانحين ليبراليين وتوظف مفكرين يساريين، اضافة لمفكرين محافظين.
كتب بايدن في نص برامجي قبل الانتخابات (يجب على الولايات المتحدة أن تتخذ إجراءات صارمة ضد الصين) ويريد التركيز أكثر على التحالفات مع الديمقراطيات الاخرى، والاحتمال هو أن يحاول الرئيس بايدن جلب الاتحاد الاوربي الى جبهة مشتركة ضد الصين، والتي ألمحت فيها ألمانيا على لسان وزيرة الدفاع (كارنباور)بأيجاد (اجندة مشتركة) مع الولايات المتحدة في التعامل مع الصين حين تتوافق مع مصالحنا. فالصين الى جانب الولايات المتحدة تعد أهم شريك اقتصادي لألمانيا.
قد تسعى الوصفة التقليدية للسياسة الخارجية الاميركية الى تحالف غربي مغلق من شأنه أن يفرض مفهوم النظام في جميع أنحاء العالم تحت القيادة الاميركية، لكن تلك الاوقات كما يرى الكثير من المراقبين قد ولت الى الابد، كون نظام القطب الواحد في التسعينات، أصبح الآن متعدد الاقطاب، يتعين فيها على أوربا أن تتصالح مع الصين، القوة العالمية الصاعدة.