تدعو العولمة إلى تقوية منظمات المجتمع المدني بغية اضعاف الدولة وهو ما يقود الى تشرذم المجتمع بينما نحن بحاجة الى دولة قوية وقادرة على ضبط الامور ولكن عادلة وديمقراطية تعطي الحرية للقطاع الاهلي. وتوفر قوى العولمة الدعم القوي للمنظمات المُعانَة وتسيِّرها كيفما تريد. وقد قاد هذا التدخل الاجنبي الى تغير عميق في خريطة المجتمع المدني الذي تتهدد مؤسساته بالتحول عن مهمتها الأساسية في دعم التطور الديمقراطي الى تقليل لِحِدَة المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والثقافية الناجمة عن سياسات العولمة وتأثيراتها على مجتمعاتنا ومثال على ذلك الانفجار وليس نمو المجتمع المدني بسبب نشوء منظمات متكاثرة ولكن بأهداف جزئية جدا ودون ان يكون لديها رؤية مشتركة او تنسيق للجهود مما يؤدي الى تفتيت وحرمان المجتمع المدني من البروز كقطاع ثالث الى جانب الدولة والقطاع الخاص.           

ومصطلح المجتمع المدني ظهر في القاموس الانساني بدايةً عند الرومان، ومن ثم اختفى ليعود بعد ذلك الى الظهور في منتصف القرن الثامن عشر الميلادي في اوروبا. نسجت حول المجتمع المدني عدة نظريات تبنتها مدارس ومذاهب سياسية عديدة، كانت الاحدث تعرفها على انها (محيط تفاعلات الدولة المستقل)، وهي تشير الى العلاقة بين الآيديولوجية والسلطة من حيث مساهمة الافراد في صياغة القرارات بشكل انتقائي وحر. وقد لعبت منظمات المجتمع المدني دوراً بارزاً على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والحقوقي والبيئي والصحي وغيرها. كما أسهمت هذه التطورات في عولمة قوانين الجمعيات والمنظمات الخاصة بالمجتمع المدني على المستوى العالمي، وذلك بتحديد مقياس، يأخذ المشتركات الأساسية والتطلعات والأهداف العامة، مع مراعاة الخصوصية الوطنية والثقافية للمجتمعات والشعوب المختلفة. ان التنوع والاختلاف هو جوهر المجتمع المدني الصحي، وبالتالي جوهر الديمقراطية الصحيحة. ويتناغم تفاعل الدولة مع المجتمع المدني وترفع راية حقوق الانسان، فإن الصيرورة المشرقة للمجتمع تكون مضمونة النتائج. وبقدر ما يغيب او يضعف التزام الحكومة بالديمقراطية تتعثر استقلالية المجتمع المدني، مما يجعلها عاجزة عن القيام بدورها على أكمل وجه.  يبدأ المجتمع المدني بالتَشَكل عند جاد الكريم الجباعي “عندما تحل الحقوق المرتبطة بالعمل أو بالحياة العملية التي تعطي العمل مضمونه وأُطِرِهُ، وتحدد أهدافه وغاياته، محل الروابط المثالية المفترضة، لحمة اجتماعية قامت عليها الجماعات المغلقة ما قبل الوطنية.

فالمجتمع المدني يقوم “على مبدأ المنفعة مفهومة فهمًا صحيحًا، وعلى الحقوق”. ليتطرق جاد الكريم الجباعي إلى “التعارض الجدلي بين النفع الخاص والنفع العام” مشيرًا إلى أن “حلول القانون مبدأ موحدًا للمجتمع والشعب ومنظمًا للدولة، محل آلهة العدالة، كان نقلةً كبيرة في الفكر السياسي وفي حياة المجتمع” (كتابه: المجتمع المدني هوية الاختلاف).  ومنوّهًا “أنه لا يجوز إغفال أثر الدين في نشأة الاجتماع البشري ونشأة النظام والقانون”.  إن إحياء دور المجتمع المدني التعاقدي مع الدولة يتطلب إعادة تنصيب وتأصيل لموقع الدولة ووظيفتها بالدرجة الاولى وبالتالي موقع ووظيفة المجتمع المدني وإعادة تأصيل لموقع ودور المجتمع المدني التاريخي والمعرفي في الحياة الاجتماعية، السياسية والثقافية وكذلك موقع الدولة ووظيفتها في السياق نفسه. وإذا كان الذي يُمَيِّز مؤسسات المجتمع المدني في الغرب أنها أصبحت قوة ضغط على الحكومات لاتخاذ القرارات، ولا سيما في بعض الميادين، حتى اصبحت الحكومات لا تتخذ أياً من القوانين أو القرارات دون الرجوع للمجتمع المدني، فإن البلدان النامية لا تزال تطمح للاعتراف بها أولا ومن ثم سماع رأيها فيما يتعلق بالبرامج السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وغيرها، ناهيكم عن تعزيز كياناتها المستقلة. وللدين الإسلامي دور محوري في منظومة العلاقات والتفاعلات الاجتماعية في الوطن العربي. وهو مكون هام من النسيج الاجتماعي والثقافي والسياسي، فلا يمكن بناء مجتمع مدني في الوطن العربي بعيداً عن الإسلام، وذلك بناء على غرار ما حدث من خبرات بناء المجتمع المدني في الغرب حيث كانت العولمة أحد المكونات الأساسية لبناء المجتمع المدني. وهناك جملة من الإشكاليات التي تعوق بناء المجتمع المدني العربي وأبرزها ضعف وهشاشة الدولة في العديد من الأقطار العربية، وعدم تأسيس شرعية ثابتة ومستقرة للدولة، وتعثر الدولة القطرية في إنجاز الأهداف والطموحات الكبرى، فضلاً عن زيادة تبعية الدولة العربية للخارج وتعثرها في الخروج من الإطار التقليدي ومفاصله المتجسدة في المكونات ما قبل الهوية الوطنية (العشائرية ـ الطائفية) والدخول إلى عالم الحداثة بمعناها المعرفي. يُؤسِس المجتمع المدني بالتفويض لقيام الدولة واستمرارها، لتعود الدولة لِتُشَكِل راعياً وحافظاً للمجتمع المدني، ولذلك اقتنع هيغل إلى أن الدولة هي الأولى، والمجتمع هو في المرتبة الثانية، لأنه في حضن الدولة فقط تستطيع الأسرة أن تتحول إلى مجتمع مدني، وإن فكرة الدولة نفسها هي التي تَتَجزأ إلى هذين العنصرين. وإن أسمى أشكال الفرد أن يكون عضواً واعياً في الدولة" حيث يدخل مفهوم المواطنة. الدولة إذن هي الروح الموضوعية التي يكون كل مواطن شعوره فيها بالأمان والاستقرار ولا يشعر بالاغتراب.

والدولة، بهذه الصفة، بوصفها الحقيقة الواقعية للحرية العينية، هي التي تتولى كفالة الحريات الفردية والمصالح الفردية ونحوها فيما يتعلق بما هو مشترك بين المواطنين. والدولة، كما يراها هيغل، هي الميدان الأخلاقي للكلية والتكامل في المجتمع المدني، وعلى حد تعبيره فإنّ:” الدولة العادلة هي التحقق النهائي للروح في التاريخ  لأنّها قائمة على الحرية وليس على القسر”، ولا تستند مقدرتها إلى القوة وإنّما إلى قابليتها على تنظيم الحقوق والحرية والرفاه في كل منسجم يخدم الحرية لأنّه غير مسوق بالمصلحة،” وليس جوهرها الأساسي الحماية والضمان غير المشروطين لحياة وملكية أعضاء الجمهور العام بصفتهم أفراداً، إنّما، على العكس هي الوحدة الأعلى التّي تتمتع بحق في هذه الحياة والملكية تتطلب التضحية بها“، فالدولة مقولة أخلاقية لأنّها توّفق بين تناحرات المجتمع المدني، وتُغطي المشاغل الكلية للبشر بالمعنى الأوسع لهذا المصطلح. (جون اهرنبرغ، المجتمع المدني: التاريخ النقدي للفكرة، ترجمة: علي حاكم صالح، حسن ناظم، مركز الدراسات الوحدة العربية، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2008).  واعتبر بن خلدون أن فكر البادية السياسي هو مركز الثقل السلطوي وهذا ما يجعله يسجل اختلافاً عن أفلاطون وفلاسفة اليونان الذين انطلقوا من المدينة كوحدة سياسية، بينما انطلق هو من البادية كوحدة سياسية، فتحدث عن الدولة من موقع العالِم وليس الفقيه، وهذه مأثرته الكبرى التي أسست فيما بعد لمفكري الغرب ركائز ومنطلقات أسهمت في قيام الدولة الحديثة. ‏وعندما تم اعتماد المجتمع المدني مكونا من مكونات البنية التحتية فإن الشيء المميز عندها، ما قام به ماركس من تمييز بين البنية التحتية والفوقية، بعد أن كانت خليطاً عند هيجل، وكذلك يميز هذه المرحلة من حياة تطور المفهوم اعتبار ماركس للمجتمع المدني من مكونات البنية التحتية، وهناك اعتقاد بأن ماركس أعطى للمفهوم معنى جديدا عندما اعتبره ساحة الصراع الطبقي وعندما اعتبره سابقا على نشأة الدولة على عكس ما رأى هيجل الذي اعتبر أن الدولة سابقة على نشأته. وفي مرحلة لاحقة وعودة المفهوم وتطوره كفضاء للتنافس الإيديولوجي في القرن العشرين، أعاد غرامشي إحياءه، وكان من أبرز ما يميز هذه المرحلة، اعتباره مكونا من مكونات البنية الفوقية بعد أن كان من مكونات البنية التحتية، وكذلك اعتباره فضاءاً للتنافس الإيديولوجي، وإعطائه وظيفة جديدة للوصول إلى السلطة عن طريق الهيمنة الآيديولوجية على مكونات المجتمع المدني.

 اما البنك الدولي فيُعرّف المجتمع المدني بأنّه:” مجموعة المنظمات التطوعية التّي تملأ المجال العام بين الأسرة والدولة وتعمل لتحقيق المصالح المادية والمعنوية لأفرادها، وذلك في إطار الالتزام بقيم ومعايير الاحترام والتراضي والتسامح والقبول بالتعددية والإدارة السلمية للخلافات والنزاعات". ويعتبر الوضع الاقتصادي المتردي الذي تعيشه مجتمعاتنا العربية بشكل عام باستثناء دول الانتاج النفطي الخليجية التي يؤمِّن لها النفط وفرة ومعدلات نمو متنامية ودخل فردي مرتفع نسبياً ،يعتبر هذا الوضع المتردي الاكثر إلحاحاً في المعالجة وذلك لارتباطه المباشر بالواقع الاجتماعي المتعدد الأوجه الذي تعيشه الشرائح الشبابية في عالمنا العربي وهو ما يجب ان يتزامن مع عملية إصلاح وانفتاح سياسي حقيقي، وذلك للترابط العضوي ما بين الاقتصادي والسياسي، بعيداً عن اي ضغط خارجي بل انطلاقاً من الحاجات الموضوعية الماثلة على أرض الواقع . وهو ما يتطلب موقفاً تقدمياً وجريئاً من الحكومات العربية التي لا بد أن تقف على أن التغيير إذا لم يحصل بالطرق السلمية فإن مخاطر نشوب إضرابات وهزات اجتماعية عنيفة قد بلغ شوطاً بعيداً فضلاً عن أن الاحباط والضغط الذي تعيشه شرائح المجتمع العربي المختلفة وعلى رأسها الشباب قد بدأ بدفع قطاعات هامة منهم نحو أشكال من الانعزال والبعض الأخر نحو الافكار الأكثر جذرية كتعبير عن حالة تمرد على واقع سياسي واقتصادي ضاغط ومأزوم فضلاً عن الهجرة وما تعنيه من نزيف في الطاقات وما تخلفه من آثار اجتماعية خطيرة.                 

 لقد أدى تجاوز الدولة العربية المعاصرة بشكل عام، لمهمتها الحقيقية والطبيعية الى وضع المجتمع المدني خارج موقعه الطبيعي وقوَّضت دوره، الذي هو محرك عملية التطور الاجتماعي وتقدم وتطور الدولة نفسها كتعبير نظمي عن تطور الجماعة وصيرورة العقد الاجتماعي وهو ما أدى بالتالي الى سقوط الدولة العربية بسقوط موضوعها. فكما ان الدولة ترعى المجتمع المدني وتوفر له سُبل النمو فإن المجتمع المدني هو الذي يحمي الدولة من الجمود والضعف والعجز ومن ثم التآكل والتهاوي. فالعقد الاجتماعي عقد صيرورة يعيد انتاج الدولة ويجددها ويمدَّها بالحيوية وبالتالي فإن تنكر الدولة لوظيفتها وهويتها الاجتماعية قد أفرغها من موضوعها المعرفي والاجتماعي الحيوي وهو ما جعلها ساقطة بالقوة ما قبل سقوطها بالفعل.

  المجتمع المدني، مجتمع الشغل والإنتاج، والملكية الخاصة والطبقات أو الفئات الاجتماعية ومصالحها المتعارضة، وما ينجم عنها من علاقات وتنظيمات اجتماعية، تكتسب جميع مضامينها ودلالاتها من العلاقات المتبادلة بين الفئات الاجتماعية، وموقع كل منها على سُلَّم الإنتاج الاجتماعي ونصيبها من عوامل الإنتاج ومن الثروة الوطنية وناتج العمل الإجمالي. أجل، هو مجتمع الشغل والإنتاج والطبقات والثقافة التي تُعبِّر بها الطبقات عن نفسها وعن الطرق والأساليب التي تعبِّر بها، والقيم والمعايير التي تتبناها، وهو مجتمع الحاجات وسعي الأفراد إلى تلبيتها وإشباعها، وميدان التعاون والتآزر، وميدان الأنانية والتنافس والتنازع، ذلك هو الواقع، أما الدولة التي تُمثل المصلحة العامة أو المصلحة الجماعية، فهي تجريد العمومية التي هي ماهية الأفراد والجماعات والطبقات أو الفئات الاجتماعية، وهي من ثَم الاستلاب السياسي لهذه الماهية.

أما العمل والإنسان، والعمل والإنتاج، والعمل كأساس لنشوء المجتمع، ثم المجتمع المدني والدولة السياسية، والعمل و “التعارضات الاجتماعية”. المجتمع المدني مجتمع الأفراد المختلفين والمتنافسين والطبقات المختلفة والمتخالفة، ومن صنعهم، في حين تنقلب هذه الواقعة الموضوعية، في الدولة، رأساً على عقب، حتى لتبدو لنا الدولة بريئة من الاختلاف والتعارض، وحتى ليبدو المجتمع كأنه من صنعها. وبتعبير آخر: المجتمع المدني ميدان التعدد والاختلاف والتعارض، والدولة ميدان الوحدة. المجتمع المدني فضاء الحرية، والدولة مملكة القانون، طبقاً للعقد الاجتماعي وهو الصيغة الذاتية للمجتمع السياسي.  

والارتباط وثيق بين حقوق الانسان والمجتمع المدني والديمقراطية. فالمجتمع المدني خلال تفاعله يتطلب حقوقا دستورية من الدولة لكي يُدير دفة الديمقراطية ومؤسساتها، ولذلك أدوات حقوق الانسان العالمية يجب ان تُشَكِّل الإطار المؤَلِف لمفاهيم المشاركة المحلية والدولية للمجتمع المدني، وكذلك لمسؤولية الحكومات والمؤسسات المتعددة تجاه المواطنين. وهكذا فإن سر قوة المجتمع المدني هي في قدرته على تحقيق الصالح العام المشترك بديناميكية شحذ وتدافع اختلاف الرؤى ووجهات النظر للوصول الى أسلم الحلول.

وأما الفرق بين المجتمع المدني والمجتمع الأهلي، فالمجتمع الاهلي عادةً ما يكون ذو طابع قرابي عصبي، وانتماء الأفراد إليه لا تحدّده إرادتهم الحرّة بل رابطة الدم أو الانتماء العرقي أو الديني أو الطائفي، والمؤسسات التقليدية القرابية لا تدخل ضمن حيّز المجتمع المدني، لأنّ سلوكها وثقافتها غير مدنية والانتماء إليها إرثي لا طوعي وليس للفرد حتّى الاختيار ليكون من هذه الطائفة أو تلك القبيلة أو ذلك الدين، واستبدال هذا الانتماء يعني تعرضه للنبذ الاجتماعي أو القتل في بعض الأحيان. وعدم تقدم المجتمع المدني يعود إلى المجتمع الأهلي التقليدي المليء بالعوائق، بالإضافة إلى عقلنة تعامل الدولة في المجتمع العربي مع الإسلام والسعي نحو تمكين الدولة والمجتمع المدني، وأن تعمل على أن تكون التعبير السياسي والاقتصادي والثقافي والاجتماعي لمختلف فئات المجتمع، وأن تكون على مسافة واحدة من جميع مكونات المجتمع عبر تخفيف آليات القوة من جهة، وفتح النوافذ أمام المجتمع المدني.