أشار الشهيد عبد الخالق محجوب ( 23 أيلول 1927- 28 تموز 1971) في مؤلفه “لمحات من تاريخ الحزب الشيوعي السوداني” (دار الوسيلة، ط 3 - 1987)، الى أن نشوء الحركة السودانية للتحرر الوطني- الحزب الشيوعي في ما بعد “لم يأت قسرا أو عن طريق الاستيراد كما يدعي أعداء الشيوعية في السودان، بل كان تطورا منطقيا للفكر السوداني وحاجة ماسة فرضتها الظروف التي واجهتها البلاد”.

أي أن تأسيس الحزب جاء امتدادا لتقاليد الحركة الوطنية السودانية الحديثة التي إنبلج فجرها بتأسيس جمعيتي “الاتحاد السوداني” و”اللواء الابيض” واندلاع ثورة 1924، ونهوض الحركة الثقافية والأدبية والرياضية، وخروج المرأة للعمل والتعليم، وتطور التعليم المدني الحديث، وظهور الصحافة الوطنية (الحضارة السودانية، النهضة، الفجر) التي أسهمت في رفع درجة الوعي الثقافي والفكري والسياسي. وبالتالي جاء ميلاد الحزب الشيوعي تطورا طبيعيا ومنطقيا للفكر السوداني.

كما ارتبطت الحركة، منذ تأسيسها في آب 1946، بالنضال والمظاهرات ضد الاستعمار (المظاهرات التي قام بها الطلبة في عام 1946)، وقدمت الحركة عموميات الماركسية باللغة العربية، وجذبت عددا من المثقفين الوطنيين والعمال لصفوفها، وارتبطت بالحركة الوطنية التحررية منذ نشأتها.

ساعد في نشأة عبد الخالق الوطنية ارتباط والده محجوب عثمان بالنضال ضد الاستعمار في جمعية “اللواء الأبيض”، كما يشير د. محمد محجوب عثمان، شقيق عبد الخالق، في مقال له بعنوان “عبد الخالق محجوب اسم وضىء في سماء الوطن” عن سبب اسم عبد الخالق:

“سألني أحدهم مرة، أن كانت تسمية الرجل جاءت مجاراة لاسم عبد الخالق ثروت باشا، رئيس وزراء مصر عام 1922 بعد نفي سعد زغلول، وبعض أعضاء حزبه، حزب الوفد عام 1919، والمعلوم أن عبد الخالق ثروت باشا ينتمي إلى عصبة الباشوات الأتراك الذين كانوا يحكمون مصر وعلى رأسهم الملك فؤاد، وكان جل أولئك الباشوات من ملاك الأراضي أو الإقطاعيين الأغنياء الذين أذاقوا الشعب المصري العسف والعذاب. قلت ردا على هذا أن الصحيح أن الوالد قد سماه عبد الخالق تخليدا لوطنية وشجاعة مأمور يسمى عبد الخالق حسن حسين عمل في ظل إدارة الحكم الثنائي للسودان، والذي في وفاته خرجت أول مظاهرة ضد الانجليز عام 1924 في مدينة أم درمان، وكان ذلك حدثا فيه كثير من الدلالات والترميز لنضال شعبي مصر والسودان المشترك ومثّل نهوضا للحركة الوطنية السودانية”.

لم يكن صدفة أن تصدر أول صحيفة جماهيرية للحزب الشيوعي عام 1950 باسم “اللواء الأحمر”، وكان ذلك تعبيرا عن أن الحزب امتداد لجمعية طاللواء الأبيض” التي كانت تصدر صحيفة “اللواء الأبيض” السري. وأصدر عبد الخالق محجوب مجلة فكرية ثقافية عام 1957 باسم “الفجر الجديد” التي توقفت بعد انقلاب عبود، وعاد صدورها بعد ثورة أكتوبر 1964، وتوقفت بعد حل الحزب الشيوعي في نوفمبر 1965. وكان ذلك تعبيرا عن أنها امتداد لمجلة “الفجر” التي أصدرها عرفات محمد عبد الله في أوائل ثلاثنيات القرن الماضي.

في ذلك يقول محمد محجوب: “ولعلي هنا استدعى احدى الحقائق وهي أن القائد الوطني عرفات محمد عبد الله قد لجأ إلى بيتنا متخفيا من ملاحقات قلم الاستخبارات، أي جهاز الأمن على العهد الاستعماري، ولا أستطيع أن اؤكد هنا أن شيئا من هذا قد رسخ في عقل عبد الخالق فقد كان طفلا انذاك. ولكن ترداد اسم وسيرة عرفات في أسرتنا لم ينقطع حتى بعد أن شب عبد الخالق عن الطوق، فقد ربطت بين عرفات والوالد علاقة عمل حيث عمل كلاهما في مصلحة البريد والبرق، وعلاقة سياسية – على درجة ما – في جمعية “اللواء الابيض”، فهل يكون هذا قد خلق أثرا في تكوين عبد الخالق العقلي بهذا القدر او ذاك؟

كما تشير فاطمة محجوب عثمان، شقيقة عبد الخالق، في مؤلفها “مذكرات فتاة شقية” (دار مدارات 2019) عن حكايات والدها الذي يقول: “علاقتي بعرفات توطدت حتى صارت أسرية فأنا استقبله يوميا عندما يحضر من منزله في ( الدباغة)، وهو حي صغير، وكثيرا ما كان يحضر راجلا رغم بعد المسافة، ومرة على ظهر الحمار متفاديا الترمواي الذي كان ينتشر فيه الجواسيس والمخبرون الذين يتابعونه كالظل والذين يعرفهم جميعا. مجلة “اللواء الأبيض” التي كان يحررها في منزله كانت حاضرة لمراجعتها، واضافة ما يراه مهما لتخرج في ثوب أنيق بسبب اللغة والأفكار الموضوعية والترتيب المنطقي للأشياء. حقا كانت مجلة “اللواء الأبيض” واحدة من أقوى أسلحة النضال ضد الاستعمار، ساعدت على انتشار الوعي وسط جماهير الشعب السوداني”. وهذا يشير الى أن محجوب عثمان والد عبد الخالق كان له دور كبير في العمل السري لجمعية “اللواء الأبيض”، وفي تحرير المجلة.

وكامتداد لجيل الحركة الوطنية ساهم عبد الخالق في اشاعة الوعي، كما جاء في رده على السفاح نميري عندما سأله في محاكمته: ماذا قدمت؟، فأجاب: “قدمت الوعي بقدر ما استطعت”.

فقد قدم الوعي، كما يتضح من مساهماته الفكرية والسياسية الكثيرة في الصحف الجماهيرية ومجلات الحزب الداخلية ( الشيوعي، الوعي... الخ)، وصحف مثل: “الفجر الجديد” التي رأس تحريرها. وساهم في صياغة وثائق الحزب الأساسية مثل: الماركسية وقضايا الثورة السودانية، وفي اصدار عد من المؤلفات مثل:

-اصلاح الخطأ في العمل بين الجماهير، دار عزة، 2004.

- حول البرنامج، دار عزة، 2002.

- قضايا ما بعد المؤتمر، دار عزة، 2005.

- في سبيل تحسين العمل القيادي بعد عام من المؤتمر، دار عزة، 2007.

- آفاق جديدة، دار عزة 2005.

-لمحات من تاريخ الحزب الشيوعي، دار الفكر الاشتراكي 1965

-المدارس الاشتراكية في أفريقيا، دار عزة 2006

-أفكار حول فلسفة الإخوان المسلمين، دار عزة

--دفاع أمام المحاكم العسكرية، دار عزة 2001.

اضافة الى الآثار الفكرية للزعيم عبد الخالق محجوب ، إعداد حسن طه مهدي، الطبعة الأولى 2018.

كما أنجز عبد الخالق محجوب الترجمات الأتية:

-ج. ليفي: الأدب في عصر العلم

-ستالين: الماركسية وعلم اللغة

-تشيرنيشيفسكي: العلاقات الجمالية بين الواقع والفن

-بليخانوف: النظرة الموحدة في التاريخ

-بليخانوف: الفن والحياة الاجتماعية

-بليخانوف: رسائل مجهول

 وأخيرا، كما قال الشاعر المرحوم محجوب شريف عن عبد الخالق:

وسيبقي رغم سجن الموت 

غير محدود الإقامة ..

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

موقع الحزب الشيوعي السوداني – 20 أيلول 2020

عرض مقالات: