مصالح دولية واقليمية عديدة ظلت  تتقاطع وتتصادم مع الاجندة السياسية للقوى الوطنية السودانية المتصارعة حول بناء الدولة الوطنية الديمقراطية من ناحية و  مع مكونات الماضي بارتباطاته الخارجية  من الناحية الاخرى. ويتم ذلك، وفق مصالح راس المال المعولم والراسماليات القومية في دول غربية وعربية واسيوية. وهذا السيناريو  كاد يغطي على ملامح البرنامج الوطني الديمقراطي.

التدخل الخشن

ولدت الدولة السودانية من احشاء مشروع استعماري، اورثها اقتصاداً تابعاً ونظاماً اتوقراطياً لحراسة المصالح الاجنبية المرتبطة بالراسمالية السودانية. ووفقاً ل د/ عبد الله علي ابراهيم،  فقد ذكر كاتب بريطاني في التايمز اللندنية عقب اول انقلاب عسكري بعدالاستقلال ان ( الجنرالات في الخرطوم قد حطموا النظام الديمقراطي الذي اسسه الانجليز). فرد عليه السير (مكمايكل) احد اكبر رجالات الادارة الاستعمارية ( نحن لم نؤسس نظاماً ديمقراطياً في السودان ، ولكننا  اقمنا نظاماً اتوقراطياً. وان الجيش قد اعاد الامور الى نصابها).  وطالب القطب الاتحادي يحي الفضلى الحكومة البريطانية بان تساعده  على تاسيس اتحاد للعمال يناهض الاتحاد الشيوعي، ويقصد اتحاد العمال الشرعي.

 وبعد انتقال قيادة العالم الراسمالي الى امريكا، سعت احزاب الراسمالية وشبه الاقطاع الى السادة الجدد تطلب عونهم. فقد ذكرالراحل محمد ابو القسام حاج في كتابه (السودان :المازق التاريخي وافاق المستقبل) وبالرجوع الى الوثائق البريطانية المفرج عنها حديثاً ان قطبان من حزب الامة، قبيل الاستقلال قابلا السفير الاسرائيلي في لندن وطلبا منه ان تقوم الدولة الاسرايئية باستخدام نفوذها حتى تقنع امريكا بمساندة استقلال الدولة السودانية الوليدة في الامم المتحدة. وبعد سنتين من الاستقلال استولى  العساكرعلى السلطة حين اتضح ان المعارضة القوية في الشارع التي يقودها الشيوعيون، خاصة وسط العمال والمزارعين والمهنين والطلاب، مترافقة مع الاغلبية البرلمانية للحزب الوطني الاتحادي  سوف تطيح بمشروع المعونة الامريكية المزمع تقديمها لحكومة حزب الامة بزعامة عبد الله خليل، فقام بتسليم السلطة للجيش. يقول  الفريق ابراهيم عبود الذي قاد الانقلاب  بتاريخ 28نوفمبر 1958 في المحاكمة التي عقدت له بعد ثورة اكتوبر الشعبية التي اطاحت بحكمه عام 1964 ان ( فكرة الانقلاب اصلاً جاءت من تحت راس عبد الله خليل هذا. فقد اعطاني تعليمات باستلام السلطة كقائد عام للجيش وبوصفه وزير الدفاع وقائدي الاعلي. ولو انه قال لنا توقفوا لتوقفنا واصدرنا تعليمات مضادة،  فالجيش يقوم التعليمات والتعليمات الاخري ولايعترض الضباط والجنود على هذا الوضع).

وقد  شكلت تلك الحكومة الانقلابية راس الرمح في القضاء على ثورة الكنغو الديمقراطية بقيادة (باتريس لوممبا). وقامت المظاهرات ضدها  بقيادة اتحاد طلاب جامعة الخرطوم الذي طالب بقفل المطار امام الطائرات البريطانية والبلجيكية.

وبعد عام واحد من ثورة اكتوبر 1964  قامت احزاب الراسمالية ، بطرد نواب الحزب الشيوعي من البرمان وتعطيل صدور  صحيفته (الميدان)، ممايعد خرقاً للدستور.  فترشح السكرتير السياسي للحزب الشهيد عبد الخالق محجوب باسم مواطن صالح، وفاز في دائرة ام درمان الجنوبية. وعارض من موقعه هذا دستور 1968 الاسلامي. وقال عنه في مرحلة القراة الاولى ( ان قادة القوى اليمينية التي خفت موازينها، حين يذهبون الى السعودية ويعودون ليتحدثوا عن الدستور الاسلامي، يتبادر الى كل ذو ذهن انهم قد قطعوا العهد امام اباطرة المال السعودي على ان يسلموهم السودان بعد عشرين عام من الزمان وقد خلى من كل عقل). وقد قامت السعودية اواخر عام 1971باسقاط  طائرة الخطوط الجوية العراقية التي كانت تقل وفداً  برئاسة عضو القيادة القطرية لحزب البعث  محمد سليمان الخليفة لمساندة انقلاب قاده الرائد هاشم العطاء ومحسوب على الشيوعيين. حدث هذا بالتزامن مع توقيف السلطات الليبية لطائرة الخطوط الجوية البريطانية في مطار بنغازي، وكان على متنها  اعضاء مجلس الثورة في نفس الانقلاب، العميد بابكر النور والرائد فاروق حمد الله وسلمتهما الى النميري بعد فشل المحاولة يوم 22 يوليو 1971 وتم اعدامهما رمياً بالرصاص مع قيادات الحزب المدنية والعسكرية. وحينها قال الرئيس المصري محمد انور السادات وهو يخاطب مجلس الشعب القومي ( انيابنا حادة،  وقد ظهرت في السودان).

 التدخل  الناعم

بعد وصول الاخوان المسلمين الى السلطة اخذ التدخل الدولي والاقليمي يتبختر في ثياب الواعظين، ويتزرع بدواعي انساينة، وحمايةً للامن والاستقرار الدوليين. فمن جانبها اعلنت الحكومة الاسلامية الجديدة حرباً جهادية في جنوب السودان ذو الاغلبية المسيحية الافريقية. كما انها حاولت تصدير الثورة الاسلامية خارج الحدود. هذا الى جانب استضافتها لمطلوين للعدالة الدولية وفي بلدانهم، مثل بن لادن  وكارلوس وراشد الغنوشي وغيرهم. مما قاد الى تصنيف السودان كاحدى الدول الراعية للارهاب.

حدث هذا في ظل تحولات عالمية واقليمية تمثلت في سقوط المعسكر الاشتراكي، و نظام (مانقيستو هالي مريام) في اثيوبيا الذي كان يدعم الحركة الشعبية لتحرير السودان ويوفر لها الملاذات الامنة في منطقة (بلفوم) على الحدود الشرقية. مماحصر النشاط العسكري للحركة في اعماق السودان الجنوبية المتاخمة للحدود اليوغندية. فوقعت في مخالب الاستراتيجية الغربية التي يمثلها نظام موسفيني. وكانت احوج ماتكون للدعم والمساندة في وقتٍ تلاحقها كتائب  المجاهدين في حرب وصفت بالابادة العرقية.  فنشطت منظمة التضامن المسيحي بقيادة (البارونة كوكس) في تحريض المجتمع الغربي والكنيسة بهدف دفع الحكومات الغربية لاتخاذ موقف ايجابي ممايحدث في جنوب السودان.

تزامن كل ذلك مع صعود الليبرالية الجديدة وتزايد نشاط منظمات المجتمع المدني وتعالي دعوات الحد من السيادة الوطنية وضرورة التدخل الدولي في شئون الدول لدواعي انسانية. في الوقت الذي قامت فيه الحركة الاسلامية بتجريف الحياة العامة من كل المعاديين لها  اوتحوم حولهم شبه انتماء لمنظمات المعارضة المعروفة. ومارست ابشع انواع التعذيب والتصفيات داخل معسكرات سيئة السمعة عرفت  ببيوت الاشباح. مما دفع كوادر الحركة السياسية والناشطين الاجتماعيين والسياسيين الى الهجرة القسرية خاصة الى مصر، ومن هناك  الى الغرب واستقر معظمهم في امريكا واوربا. وكانوا مصدراً مهماً لرصد الانتهاكات التي اسهمت في وضع السودان في القائمة السوداء لمجلس حقوق الانسان. مما زاد من حالات الحصار والمقاطعة التي واجهتها الحكومة السودانية طوال عهدها ولازالت عقابيلها باقية رغم سقوط النظام الذي تسبب فيها.

نتيجة لهذه الظروف تزايد نشاط منظمات المجتمع المدني، فبلغت 10 الف منظمة ،منها 4 الف تعمل في الخرطوم وحدها. فتبلور خطاب يهتم بالنوع الاجتماعي والعرق خصماً على الخطاب الوطني الديمقراطي الذي يعلي من شان القيم المجتمعية ويرفع قضية التنمية والصراع الطبقي وانجاز قضايا مابعد الاستقلال. فقامت جمعيات مدعومة من المراكز الغربية. مثل منظمة الديمقراطية اولاً ومعهد السلام الامريكي وشاتام هاوس البريطانية ومراكز (الجندر).

اصبح هناك نشاط ليبرالي معادي للنظام، كما انه معادي لكل النادي السياسي القديم، ويعمل على الحاق السودان بمصالح راس المال المعولم. كما قامت جيوب تدعمها الراسماليات القومية في السعودية والخليج بسمسرة مصرية. الى جانب التحركات التركية التي تسعى لوراثة تنظيم الاخوان المسلمين .

بداية السباق

في غمرة التجاذب بين المجلس العسكري، وقيادة الحراك الشعبي، استضافت العاصمة الاثيوبية اديس ابابا بتمويل من منظمة عالمية معروفة، قيادات  في الحرية والتغيير  واخرى مستقلة عنها، لتلتقي مع بعض  رموز الحركات المسلحة،

 ودار همس عن زيارات سرية الى دولة الامارات العربية. هذا في الوقت الذي تعهدت فيه تلك الدولة بتقديم دعم مالي للخزينة الخاوية قيمته 3 مليار دولار  تلقت الحكومة منها بالفعل  بضعة ملايين الى جانب مساعادت عينية. في مقابل عدم سحب قواتها من اليمن.وفي اعقاب ذلك جاء عبد الله حمدوك ليودي القسم كرئيس للوزراء. وبعد  ايام  استضافت عاصمة دولة جنوب السودان وبتمويل من الاتحاد الافريقي، مفاوضات السلام التي يقودها نائب رئيس مجلس السيادة حميدتي تحت مسمى المجلس الاعلى للسلام وهو كيان لم تنص عليه الوثيقة الدستورية التي خصصت مفوضية للسلام  يشرف عليها مجلس الوزراء. مما يظهر صراع راس المال المعولم والراسماليات القومية المدعومة من الراسمالية الامريكية التي لديها اسباب قوية لمناهضة النشاط المعولم الذي فتح الاسواق  العالمية امام المنتجات الصينية، وتقف الى جانبها الدولة الاسرائيلية التي التقى رئيسها برئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان في العاصمة اليوغندية كمبالا في عملية لازالت تثير لغطاً كثيراً في الخرطوم بعد وفاة ناشطة سودانية بفيروس كورنا يشار الى انها قد لعبت دوراً في ترتيب اللقاء.

في هذه الاثناء يتعرض الحزب الشيوعي لهجوم من الجميع، لانه رفض باكراً طبيعة الشراكة التي افضت الى هيمنة العساكر بارتباطاتهم الخارجية كما  يعكسها موقفهم المساند للسعودية والخليج.  ولوقوفه ضد سياسات وزير المالية التي تعتمد على المنح والهبات الخارجية، ومواصلته لتنفيذ سياسات البنك الدولي ممثلة في رفع الدعم وتعويم العملة الوطنية. بالمقابل شعرت الجماهير ان اوضاعها لم تتغير. فانعكس ذلك في انتخابات قيادة تجمع المهنيين التي جاءت بقيادات  ثورية، وهي خطوة قابلتها الكيانات الاخرى باستهجان شديد ووصفتها بانها محاولة اختطاف حزبي لجسم  ذو طابع مهني ونقابي.  لكن القيادة الجديدة قامت باحياء ذكرى فض الاعتصام بدعوة الجماهير للخروج للشوارع في سلاسل بشرية تراعي فيها التباعد والاحتياطات الصحية الملازمة لجائحة كورونا. فلاقت استجابة واسعة  من قبل لجان المقاومة في كل السودان،  مما يعتبر مؤشراً واضحاً على طبيعة الفرز الذي يعم الساحة السياسية.

الخرطوم

عرض مقالات: