لم تكن قضية قتل جورج فلويد الأمريكي عفوا، كما يتبادر لأول وهلة، أو أنها عقاب لجريمة تزوير 20 دولارًا، إنَّما هي ايديولوجيا الرأسمالية العنصرية المتوحشة، والمحتمية بسلطة الرأسمال الهائل، وبالتقنية العلمية والاستبداد، حين وظفت لسياستها أذرعًا مسلحة من ألوان المؤسسات الامريكية القمعية، معلنة عن تطبيق سياسة القطب الواحد ليس ضد الشعوب خارج امريكا، بل في  داخل أمريكا، لترسم صورة أخرى للدول الأوربية المترددة بين القبول لسياسة القطب الواحد والرافضة. وقد بدأت بوصلة هذه السياسة بعد جائحة كورونا  حين اتجهت بوصلة بعض الدول الأوربية  نحو تتجه صوب  نفسها، أولًا ثم  نحو الصين وروسيا. لتوسع من دائرة التضامن العالمي مع شعوبها. ما حدث في الشارع الأمريكي وإشهارية القتل إعلاميًا، أعطى صورة  أخرى لنوع الضحية؛ من إنه إمّا ملون وأمّا مهاجر. وهو ما استشعرته قوى اليسار في دول أوربية أخرى، من أن انظمتها اليمينية تتقرترب رؤيتها مع رؤية ترامب، خاصة عندما رافق الكرونا مفهوم مناعة القطيع. في هذه اللحظة التاريخية بدأت قوى اليسار تتحسس أوضاعها قبل أن تمارس السلطات الأوربية ضدها طرائق العنف كما في أمريكا ، فالاوضاع في اوربا منذرة بوضعية احتجاج جديدة ليس بسبب  كورونا والوضع الاقتصادي الذي حرم قطاعات كبيرة من العمل. إنما في ترجمة الخطاب الشعبوي إلى ممارسة علنية.

على الجانب الآخر تؤكد ظاهرة العنف المؤدلج، حقيقة أخرى، ذات شقين: الشق الأول هو ما ظهر منها في ردة الفعل العنيفة والواسعة لدى الشعب الأمريكي نفسه، بالرغم من فوضى النهب والحرائق، التي اعطت صورة أعمق عن ظاهرة الاحتجاج، وحقق هذا المد الجماهيري الذي انتشر بمعظم الولايات الأمريكية حقيقة حاجة المجتمع إلى سياسة متوازنة، لاعادة معنى المواطنة التي شوهتها الأنظمة الاستبدادية والدينية على حد سواء. ومايزال هذا الشق يتعمق في الآراء والأفكار على المستوى الثقافي والفلسفي والعلمي والاجتماعي، وستكون نتائجه متأخرة ولكنها مؤثرة لاحقًا، كما كانت نتائج حركة التظاهر في اوربا 1968، وكانت نتيجتها ان حصدت ثمارها الرأسمالية الأمريكية وليست الأوربية. فجددت الإمبريالية نفسها. الشق الثاني هو عمق التحسس الجماهيري الواسع في الدول الأوربية: بريطانيا والمانيا وهولندا وبلجيكا وكندا وغيرها، للدور الجديد للعنصرية من أنها ليست ابيضًا ضد أسود، ولا شعبًا ضد شعب آخر، إنما هي وجه آخرلسياسة  امبريالية مبرمجة ضد اليسار الأوربي بمختلف أطيافه وحركاته، ويؤكد هذا الشق ماذهب ترامب إليه من ان قوى أخرى تمارس تقويض النظام الرأسمالي.

في منطقة مابين الشقين، ثمة موقف عميق لنوع من الممارسة العنيفة. عندما تمثلت بعض الأنظمة الدينية واليمينية خارج اوربا سياسة القمع، وهو الشكل الذي يحدث في بلداننا العربية والآسيوية، وحقيقة  هومحاولة لتشكيل بنيته ليست رأسمالية صرفًا ولا دينية صرفًا، بل هو شكل من اشكال البنية الهجينة لتمثيل للنظام الاستبدادي، الذي يرى في قوى اليسار ضديدًا قويًا لوجودها. ولذلك كانت ردة الفعل لدى هذه الأنظمة "المابينية"، عنيفة ومضحكة بغبائها، خاصة في العراق وايران، حيث اعتبرت نفسها قوى رأسمالية ومن يعارضها هم الفئات اليسارية وعليها ان تقمعهم حتى من داخل معتقداتهم الدينية، حينما سلحت الخرافة ضد من يؤمن بالمقدس.  دون ان تعرف أن قصور الملح ستذوب في اتربتها الندية، لأنها لاتملك قاعدةاقتصاديةمثل اميركا تستوعب بها الأضرار التي تحدثها حركة الاحتجاج وبامكانها ان تقدم البديل الرأسمالي الأكثر راديكالية لاستيعاب هذه الاحتجاجات.  المضحك أن قوى الإسلام السياسي يشمت بأميركا دون ان يحلل الأسباب، ويتخذ من اسليبها القمعية صورة لسياستها ضد المتظاهرين في العراق وايران وتركيا، مطبقة  هي الأخرى وبدون رؤية سياسية، سياسة القطب الواحد في العراق وإيران، ومستخدمة اشكالًا من العنف والقتل والاختطاف. وإلا بما نفسر قتل أكثر من 700 شاب عراقي ببنادق عراقية وايرانية، تدعي اليوم انها مع التيار اليساري في أمريكا؟ لو كانوا فعلًا أمناء لدينهم وللوطنية وللديمقراطية التي يدعون، لوقفوا مع التظاهرات السلمية الداعية للتغيير. لقد أتضح أن لا اختلاف في الأنظمة السياسية عندما تتوحد مصالحها، وكانت النتيجة مضحكة أن يشمت قاتلو الشباب العراقي بامريكا، في حين انهم يتبنون سياستها القمعية. وما لجوء الرئيس الأمريكي الى رفع الإنجيل إلا دليل على أن السلطة السياسية مرتبطة بالسلطة الدينية، والعكس صحيح أيضًا، وكلتاهما تصطف ضد الناس، عندما تصل المطالبة بالحقوق المدينة وإلى سؤالهم من أين لك هذا؟. لقد مارست السلطة الدينية في القرنين الرابع عشر والخامس عشر، أبشع انواع القتل ضد التنويريين، بمساعدة السلطات السياسية ومحاكم التفتيش، ولكن ماذا كانت النتيجة؟ انحسار مميت للسلطة الدينية أنذاك، وتبدل في مناهج السلطة السياسية،.وهو ما طمغ هوية عصر النهضة بالعلمانية.علينا في العراق أن نمد رؤية التحرر العميقة إلى ثوار الساحة، من أنها ليست رؤية من أجل مطاليب،بل رؤيةمن أجل التغيير.

عرض مقالات: