تمثل جائحة كورونا حدثا لم يشهده العالم منذ مئة عام وأدت الى انهيارات اقتصادية وأزمات غذائية واجتماعية غير مسبوقة أحد اسبابها  الفرض القسري لتغيير السلوك الفردي والمجتمعي نتيجة الحجر والعزلة الاجتماعية حيث مارست الدولة قدراتها لإجبار المواطنين على الامتثال ومنع ممارسة عادات وتقاليد وطقوس سياسية واجتماعية متعارف عليها او دينية متوارثة بعضها تشكل مكونا أساسيا من العقل الجمعي التاريخي. هذا الدور الذي مارسته الدولة والذي وقف الفرد الإنساني إزائه عاجزا  ولكن ممتثلا او متفاعلا او متحديا تعتمد على مدى الوعي الذاتي للخطر الذي تمثله هذه الجائحة عليه ،وعلى عائلته والمجتمع ككل.

التداعيات النفسية للجائحة

لذا تكون مسببات التداعيات النفسية لهذه الجائحة معقدة ومركبة ولم تواجه سابقا بسبب خصوصية هذه الظروف القسرية التي هي خارج إرادة الفرد وما أدت اليه من انقطاع التواصل او فقدان الاهل والمعارف والأصدقاء أو التوقف عن العمل بسبب الحظر أو الخوف من المجهول  والشعور باقتراب الموت الذي يقف شاخصا امام الجميع تحفزه الأرقام التي تعلن يوميا عن عدد الوفيات في العراق والعالم كأحد مؤشرات خطر هذه الجائحة. بعضها او جميعها يؤدي الى موشور واسع من التبعات النفسية - الاجتماعية منها  ازدياد معدلات العنف الاسري والتنمر او محاولات لإيذاء النفس المتعمد او استخدام المخدرات والمؤثرات العقلية او اضطرابات القلق والفزع والوسواس القسري وحالات ما بعد الصدمة واضطرابات توهم المرض واضطرابات المزاج الحادة والشديدة ويتضاعف الامر لدي المرضى العقليين الذين يتلقون علاجا ودعما من مؤسسات الصحة النفسية قبل الجائحة  إضافة الى تأثيرات كل هذه على الأطفال والمراهقين  ومن لدبهم علامات  اضطراب اﻟﺘﻮﺣﺪ  او الإعاقة وتتجلى على شكل اعراض ﺳـــﻠﻮﻛﻴﺔ وإﻧﻔﻌﺎﻟﻴـــﺔ كإﺿﻄﺮاب ﻓﺮط اﻟﺤﺮﻛﺔ وﻧﻘﺺ اﻹﻧﺘﺒﺎﻩ  او أﺧﺮى ﻓي اﻟﺴﻠﻮك واﻟﻤﺸﺎﻋﺮ او اﻟﺘﺒﻮل اﻟﻼإرادي  على سبيل المثال لا الحصر وأيضا تأثيراتها النفسية على كبار السن الذين هم اكثر عرضة للإصابة بكوفيد 19 نتيجة النسبة العالية للأمراض المزمنة كالسكري وامراض القلب وتصلب الشرايين فتزيد من معدلات إﺿﻄﺮاﺑﺎت اﻟﻤﺰاج ﻋﻨﺪ ﻛﺒﺎر اﻟﺴﻦ  او حالات اﻟﻘـﻠﻖ والاضطرابات المعرفية بكافة أنواعها. وهناك ترابط وثيق بين الصحة النفسية ومدى توفر الخدمات والرعاية الاجتماعية كالرواتب والغذاء والماء والسكن والحماية الاجتماعية للمهمشين والمعاقين والفقراء والعاطلين والمشردين والذي يسهم في تعزيز الصلابة المجتمعية وتقليل التداعيات السلوكية او الانفعالية خاصة وان إجراءات الحظر الاجتماعي قد قلصت بشكل كبير من فرص العمل لذوي الأجور اليومية واهل البسطات.

توقعات خلال وبعد الجائحة

وتفيدنا التجارب عن تجليات اﻟﺼﺤﺔ اﻟﻨﻔﺴﻴﺔ في ﻇﺮوف الكوارث والنزاعات ببعض ما يمكن الإفادة منه لوضع فرضيات حول ما يمكن توقعه خلال وبعد هذه الجائحة من انماط متعددة من المتغيرات في السلوك والعاطفة والقدرة على التفكير كما تشمل التبعات النفسية أيضا زيادة في تناول الكحول والمخدرات والمؤثرات العقلية و التدخين ولكن من المتوقع ان نسبة قليلة ستظهر لديهم أعراض نفسية عقلية حادة كالكآبة والفصام وخاصة لدى الذين لديهم تاريخ مرضي نفسي ومقبولة علميا كمقاربة في غياب الإحصائيات أو المسوح النفسية المجتمعية خلال هذه الجائحة. ومن المهم أيضا الإشارة الى استنتاج اخر من هذه الدراسات هو عدم اهمال او التقليل من قدرة الصمود النفسي المجتمعي نتيحه التكاتف والدعم من العائلة والأقارب والمعارف وعدم اعتبار كل شخص بحاجة للتداخل والدعم النفسي وأيضا التعامل مع الصحة النفسية كعامل مكمل عضويا وبنيويا مع الصحة الجسدية حيث لا توجد “صحة بدنية بدون صحة عقلية “لذا فالتعامل مع متطلبات سلامة الصحة النفسية يكون على أساس انها مكون رئيس في سياقات الصحة العامة لضمان امن المواطن الصحي الجسدي والنفسي.

 ومن الواضح ان إمكانية خدمات الطوارئ والمؤسسات المكلفة بالتصدي للجائحة حاليا غير قادرة على تلبية حاجة المواطنين للدعم النفسي الاجتماعي , كما أن الخدمات الصحية النفسية العراقية التي أعيد بنائها بعد ٢٠٠٣  اعتمدت النموذج المعاصر في ان تكون المراكز المجتمعية والرعاية الصحية الأولية هي حجر الزاوية في تلبية الاحتياجات النفسية  الا انها في تقديري غير قادرة لأسباب عدة أهمها محدودية الكادر والموارد المالية والخبرات المهنية المواكبة لما هو حديث في مجالات الاستشارة النفسية والنقص في متطلبات التدريب المهني و هشاشة الحوكمة في ضمان النوعية والرقابة على الأداء ولذا يشكل الظرف الحالي فرصة لإعادة بناء هذه المراكز واعتمادها كأساس في تنفيذ الرعاية الصحية النفسية الأولية بما يشمل من مسح ورصد ومتابعة للحالات والاضطرابات النفسية أو تداخل علاجي من قبل المراكز النفسية المتخصصة للحالات الشديدة كما ان الاستخدام الواسع للتقنيات في الفضاء الرقمي مثل زووم او سكايب او غيرهما يتيح إمكانية تنفيذ برنامج تعليمي وتدريبي مهني وحديث لكافة الكوادر البشرية على طرق وسياقات البرامج المجتمعية للدعم الصحي النفسي - الاجتماعي.

لجنة سلامة الصحة النفسية

وتكون الخطوة الأولى عبر  تشكيل خلية او لجنة سلامة الصحة النفسية  برئاسة مستشار الصحة النفسية وتضم خبراء ومتخصصين عراقيين وتستفيد أيضا من الخبرات العالمية والفضاء الرقمي ويكمن دورها الاستراتيجي في رسم الخطوط والاتجاهات العامة لتوفير الدعم النفسي المجتمعي بأشكاله المختلفة وبما ينسجم مع البيئة العراقية ويعزز الصمود النفسي ويحقق النتائج المطلوبة في تقليل نسبة الإصابات النفسية وتمكين المواطن من استعادة قدراته النفسية ونموه خاصة لدى الأطفال او  تغيير انماط الحياة السلبية نحو الأفضل ما بعد الجائحة والتعامل مع هذه المصاعب بشكل صحي ومهني وتقليل حالات استخدام المخدرات والمؤثرات العقلية والكحول والتدخين والعنف ضد النفس والاخرين وتقوية التلاحم العائلي المجتمعي خاصة وان هذه الجائحة تحمل معها شعورًا قويًا بالعجز ازاء  اللامجهول والعزل لا يملك القوة لمواجهه هذه المتغيرات. وسيتطلب كل ذلك أعادة دراسة وتقييم خطط وسياقات الصحة النفسية الوطنية الحالية خاصة في جوانب الدعم النفسي والاجتماعي والصحة العامة بما يضمن استجابتها لما بعد الجائحة.

 كما وتقوم هذه اللجنة بتحديد إشكال التداخلات النفسية الممكنة أي على شكل لوغاريتمات  وماهي الخبرات المطلوبة وكيف يتم توفيرها  ورسم برامج تدريبية معتمدة على الأدلة والبراهين البحثية تهدف الى تعزيز قدرات المؤسسة لتحقيق هذه الأهداف  وتحديد الكلفة المالية لانجاز ذلك.

تنسيق المؤسسات ذات العلاقة

وبالتأكيد هناك أيضا دور مهم للجنة الصحة والبيئة البرلمانية عبر ممارسة دورها الرقابي والتشريعي لدعم هذه التوجهات وتبني برامج الصحة النفسية. وعلى صعيد محلس الوزراء يكون لبرامج الصحة النفسية مكانا في خطط وزارة التخطيط وفي الموازنة السنوية العتمدة وتشمل أيضا سبل توفير الدعم النفسي للكوادر والمهنيين الصحيين والمتصديين للجائحة لما يتعرضون اليه من ضغوط نفسية كبيرة وتعزيز مهاراتهم في رصد الاضطرابات النفسية وكيفية التواصل مع الخدمات النفسية والاجتماعية المتوفرة مثلا اعتماد الطرق الحديثة في معالجة حالات الهذيان خاصة النوع ذي الاثارة المفرطة الذي من اعراضه الهيجان والعنف  عند كبار السن المصابين بكوفيد 19 والسياقات القانونية للتعامل مع المرضى الذين يفتقدون للقدرات العقلية المطلوبة على أساس تفعيل القانون الخاص بالصحة النفسية وبالتزامن مع مهمة المستشفيات الصحية النفسية مثل مستشفى الرشاد او ابن رشد في بغداد والمحافظات الأخرى باتباع سياقات للتعامل مع المرضى الراقدين الذين اصيبوا بفيروس كوفيد 19.  

الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الجائحة

وتأتي الخطوة الثانية بعد بدء العودة التدريجية لتقليل الحظر والتباعد الاجتماعي فتصبح  هذه اللجنة جزءا من الاستراتيجية الوطنية لتعزيز الأمن الصحي لمكافحة كوفيد ١٩ ويقدم لها الدعم الكامل المطلوب من وزارة الصحة والبيئة. وتستفيد هذه اللجنة  من الدراسات حول التبعات النفسية للكوارث زالنزاعات والإرهاب التي جميعها تشير الى تفاقم الأوضاع النفسية وشمولها مدايات اجتماعية واسعة والشيء المهم الاخر الذي تقدمه هذه الدراسات هو اشكال وحجم الثغرات التي قد تعاني منها الخدمات الصحية النفسية وسبل التعامل معها ولكن بعد تقييمها بشكل نقدي وايضا دعم اجراء دراسات وبحوث  للقيام بمسوح اجتماعية حول اتساع ونوعية المتغيرات النفسية والتي يمكن ان تبادر بها أقسام الطب النفسي في المحافظات وكليات الطب في الجامعات وكليات التمريض وتخصص لها ميزانية وهي ليست كبيرة لإنجازها والاستفادة من نتائجها في رسم البرامج الملموسة لتوفير الدعم النفسي للمحتاجين. وتجدر الإشارة هنا الى ان العراق ولأسباب عدة يعاني من قلة الموارد البشرية والكوادر على مختلف المستويات من المهارة في مجالات الاستشارة وتقديم الدعم النفسي وأيضا القدرة المالية لتمويل برامجه التدريبية والعلاجية لتدريب كوادره على التعامل مع الكوارث بشكل عام وهذه الجائحة بشكل خاص فكما هو معروف ان العراق مقارنة بجيرانه هو الأقل في تخصيصات الصحة من الميزانية العامة للدولة اما نصيب المؤسسات النفسية منها فهو اقل بكثير مما تحتاج اليه ولا ينسجم مع مستوى التحديات. ويتضمن البرنامج التدريبي خاصة للمرشدين النفسيين والباحثين الاجتماعيين اكتساب المهارات لمعرفة اليات التوافق والتكيف مع عوامل التوتر الضاغطة واشكال السلوك الانساني السوية وغير السوية ومتطلبات تقدير الحالة الاجتماعية وصولا الى منظومة متكاملة تعكس تطبيق مفهوم الوقاية من الاضطرابات النفسية بأشكالها الأولية والثنائية الثلاثية. وهناك أيضا حاجة لرسم برنامج لتعزيز قدرات مؤسسات الصحة النفسية المتخصصة بتوفير خدمات الإسعاف الاولي النفسي والتي تستخدم عددًا من المهارات لتشخيص ومساعدة المواطنين لتقليل الاضرار النفسية الاجتماعية  لان الوضع النفسي المستقر هو ضرورة لازمة لزيادة قدرات وطاقات العراق على تنفيذ الأهداف السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. ويعد النازحين نتيجة النشاطات الإرهابية والعمليات العسكرية قضية خاصة في كافة جوانب التخطيط الصحي للاستجابة لاحتياجاتهم الصحية العامة والنفسية بشكل خاص.

 ومن المقترحات الممكنة التحقيق للعمل على زيادة الكوادر في مراكز الصحة الأولية هو فتح باب التوظيف وتدريب خريجي المعاهد الصحية والعلوم الإنسانية عبر دورات مكثفة ومتخصصة لاكتساب المهارات المطلوبة للمرشد النفسي.

التوعية المجتمعية

 وتمثل التوعية المجتمعية للتصدي لوباء كورونا ركنا أساسا في تطبيق سياقات الصحة العامة الجسدية والنفسية  عبر أنشطة إعلامية ممنهجة حول التبعات  النفسية المحتملة والخدمات المتوفرة ودور ومهمات المواطن والتكوينات المجتمعية كالعشيرة مثلا. اما من يقوم بها فتشمل اوساطا عدة منها مديرية التوعية الصحية في وزارة الصحة والبيئة العراقية وبالتعاون مع المؤسسات الإعلامية شبة الرسمية والخاصة وبمشاركة فعالة من تنظيمات المجتمع المدني  واعلامي الفضاء الرقمي  في نشر حملات الارشاد النفسي  لشرائح المجتمع المختلفة عن أهمية الصحة النفسية الى جانب الالتزام بالتوجيهات لتطبيق الحظر والعزل الصحي  لمنع انتشار العدوى وتفهم المخاوف المشروعة من فقدان مصادر العيش وتوقف الاعمال اليومية او الحذر من الوصمة والاقصاء المجتمعي والشعور بالوحدة والعزلة والضجر.

نخلص الى :

ان التطبيق المتوازن لهذه السياقات ضروري لتعزيز امكانات القوة والصمود  في المناطق الحضرية والريفية، ويعمق مظاهر واليات التكافل العائلي والاجتماعي وغلبة مشاعر الامل والامن والأمان والاكتفاء ومحاربة الوصم والاقصاء العائلي او المجتمعي ومساعدة الثكلى ودعمهم نفسيا واجتماعيا وبدعم من مراكز الصحة الأولية لبرمجة وتقديم الخدمات المطلوبة.

كل هذا يشكل أفضل ما يمكن ان تقوم به الحكومة الانتقالية الحالية برئاسة السيد مصطفى الكاظمي ووزارة الصحة والمؤسسات المعنية بالشؤون الاجتماعية ومنظمات المجتمع المدني في اليوم العالمي للصحة النفسية الموافق 21 مايس 2020.

 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* طبيب استشاري متقاعد في الصحة النفسية والعقلية

عرض مقالات: