هي الحالة الأولى في تاريخ فن الكاريكاتير التي يتم فيها قتل فنان كاريكاتير رمياً بالرصاص بسبب رسومه. ما الذي أزعجهم لزجه في القصر الجمهوري، هل هو صاحب السلطة الغاشمة الذي استاء منه لكي يأمر بقتله لأنه عبَّر عن هموم العامة بالحبر الصيني الأسود الرخيص؟ وهل يمكن لهذه الرسوم السياسية البسيطة الساخرة أن تهز عرشه وتدفعه الى قتل خصمه علناً على قارعة الطريق في وضح النهار؟ حالة غريبة ونادرة تحتاج إلى دراسة وتفسير.

أغلب الظن أن محنة رسام الكاريكاتير الفلسطيني ناجي العلي في السُخرية من القيادة السياسية وتشبه محنة ابن المقفع مع المنصور أبو جعفر ثاني خلفاء بني العباس:                      

كان الفرن مشتعلاً, وقُيد ابن المقفع إليه. توقف أمامه, فقال له سفيان بن معاوية: والله يا ابن الزنديقة لأحرقنك بنار الدنيا قبل الآخرة, وذلك يعود إلى كون ابن المقفع كان يعامل والي البصرة بازدراء وسُخرية, فقد كان لسفيان أنف هائل الحجم, وعندما كان ابن المقفع  يلتقيه يحييه بقوله: السلام عليكما. كان يعتبر انفه شخصاً مستقلاً, ملصقاً بوجهه, لهذا تربص به الوالي حتى جاء الوقت المناسب فألقاه في الفرن. كيف سنحت الفرصة لقتل ابن المقفع؟ وما خطيئة؟ افتراضه أن الكلمة تملك خاصية سحريَّة و  في إمكانها تغيير العالم. لقد سعى في خطوته الأولى لتغيير الذين يستطيعون التغيير, فأرسل للمنصور كتاباً صغير الحجم عظيم القيمة سماه (رسالة الصحابة) نصح فيه الخليفة بحسن اختيار بطانته وحسن سياسة الرعية. سخط الخليفة مما جاء في الرسالة من جرأة تنال من هيبة وقداسة السلطة وحاشيتها, فأمر عامله في البصرة  بوضع ابن المقفع في  الفرن.

أتساءل مع الباحثة المصرية الدكتورة هالة أحمد فؤاد متى تمارس السلطة سلوكاً عنيفاً يصل حد الغضب المستعر وممارسة الانتقام والتصفية الجسدية لأحد منتقديها حين يتطاول ويتجرأ عليها علانية؟ ربما يحدث هذا التحول في سلوك السلطة حين ينال فعلياً من سطوتها وهيبتها وتزداد وطأة المسألة وخطورتها حين لا يكتفي بقول الحقيقة عارية بيد أنه يحاصر تلك السلطة الغاشمة ويراقبها ويخترق عوالمها السرية منتهكاً قدسيتها المزعومة. وأود أن ألفت النظر إلى ملحوظة مهمة هي أن الوقوف مع الرعاع  وإظهار أقوالهم المتداولة الفاحشة  حول تلك السلطة وحاشيتها والتشجيع عليها والذهاب الى أبعد مدى في فضح أسرارها تدفعها لتكون أشد عنفاً ودموية في ردود أفعالها.

ولعل المضمر الأكثر عمقاً وتخفياً وراء هذا الغضب المستعر نحو رسام يتكئ في سلامته الشخصية على تضامن (الرعاع) من قومه في مخيمات الفقر والفاقة, هو إدراك تلك السلطة الغاشمة  عجزها عن فهم نوازع هؤلاء البسطاء وأسباب هجائهم السافر. فقد قيل أن ناجي العلي تلقى تهديداً بقطع أصابع يديه إذا استمر بالسخرية في رسوماته اليومية من السلطة السياسية وزعيمها. فكان رد ناجي العلي مزيداً من الرسومات التي تطول هذه الهيبة المزعومة للسلطة. وقال متحدياً ساخراً في آن معناً: إذا قطعتم أصابع كفي سأرسم بأصابع قدمي.

وتؤكد الباحثة المصرية الدكتورة هالة أحمد فؤاد بأن من المثير للانتباه حقاً أنه كلما زاد القمع وتعددت ضروب المذلة والإهانة والإحباط اليومي كان هذا دافعاً نحو المواجهة العلنية السافرة. أي أن السلطة الغاشمة الأشد قمعية هي الأكثر تعرضاً لأعنف تعبير عن الغضب. ويفسر لنا جيمس سكوت في كتابه المهم " كيف يهمس المحكوم من خلف ظهر الحاكم" هذه المسألة تفسير مهم لافت حيث يرى أن الخضوع والإذعان الإكراهي لا ينبئ عن استسلام حقيقي أو اقتناع فعلي بل إنه نتاج الخوف من العقاب والبطش. وكأن الإكراه والعسف يحصن المقموع ضد الإذعان ويولد لديه الرغبة العارمة في التمرد. فإن ميدان تفجر التحدي العلني سيغدو دوماً الميدان الأكثر براحاً وحرية. بل إن هذا الميدان سيغدو مساحة يكتشف عبرها كل من القامع والمقموع طاقاته الحقة وإمكاناته المضمرة عن طريق بلوغ الصراع بينهما ذروته وتوتره, ما بين تجاوز المقموع لكل الحدود وانتهاكه لكل المعايير والقيم من ناحية, وعنف الرد  ودمويته من قبل السلطة المستبدة  من ناحية أخرى.

أتساءل مع التشكيلي السوري يوسف عبدلكي هل حشا ناجي العلي كاريكاتيره بالديناميت حتى أعطى هذا التأثير المتفجر المميت؟ نحن نستعمل تعبير: قتل الموضوع بحثاً,  وهذه العبارة أحياها من جديد عميد الأدب العربي طه حسين, فهل أَشبع كاريكاتير ناجي العلي السلطة الغاشمة قتلاً؟ في العادة يتناول رسام الكاريكاتير الشخصيات السياسية العامة بلطف وحرص شديدين. ناجي العلي قلب هذه المعادلة فشخصياته من الرعاع المهمشين العاديين أبناء المخيمات وبيوت الصفيح الفقراء المساكين زينب ومحمد وفاطمة وعائشة وحنظلة. هكذا أصبح القارئ لا يطالع في رسومه المواقف الرسمية من الأحداث والردود عليها وكشفها, بل يطالع ما يقوله رجل الشارع عبر الحياة السياسية اليومية بلسانه الفضّاح الجارح الساخر معلقاً تارة وشاتماً تارة أخرى. ونكاية بالسلطة وحاشيتها الفظة الغليظة القلب, صنع لها من يوبخها كل صباح,  إنه حنظلة ابن المخيم ذي السنوات العشر. وهو دائماً "عاطي ظهره" لذلك يستحيل على أجهزة الأمن والمخابرات كشفه. وهو دائماً حاف, مسحوق, مرقع الثوب, ولكنه في النهاية لا يخسر شيئاً. وضعه كضمير حي, واع, وعين ترصد كل ما ترتكبه السلطة السياسية  من موبقات. وهنا تكمن خطورة كاريكاتير ناجي العلي الذي أرق مضجع هذه السلطة الغاشمة وأقلق راحتها، فأمرت بقتله رمياً بالرصاص.             

عرض مقالات: