المعروف ان الحركة العمالية العالمية أسست لنفسها ثلاث امميات. الاولى كانت تأسيسية، شكلها معلما البروليتاريا كارل ماركس وفردريك انجلز وقد انحلت بعد فشل كومونة باريس عام 1871، حيث انتهى دورها واخلت المكان للأممية الثانية ولمعرفة مآلها –الثانية- يمكن الرجوع الى مؤلف لينين (الثورة البروليتارية والمرتد كاوتسكي).
في 6/7 تشرين الثاني من العام 1917 قامت في روسيا ثورة اكتوبر المجيدة وانتصرت بقيادة حزب البلاشفة وتشكلت في حينه الحكومة السوفياتية التي ترأسها فلاديمير ايليتش لينين وبدأت بذلك مرحلة جديدة في حياة البشرية وفي تاريخ الماركسية.
الحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي –حزب البلاشفة-بعد انتصار الثورة غير اسمه الى (الحزب الشيوعي). تبعت ذلك حركة الانشطار في احزاب (الاممية الثانية) –الاحزاب الاشتراكية الديمقراطية-حيث غادرتها الاجنحة اليسارية فيها وبدأت بذلك حركة تأسيس الاحزاب الشيوعية. عام 1919 أي بعد عامين على انتصار ثورة اكتوبر المجيدة عقد في موسكو المؤتمر التأسيسي للأممية الثالثة والتي حملت اسم (الاممية الشيوعية) –الكومنترن-وحضره مندوبون عن الاحزاب الشيوعية الوليدة.
في هذا المؤتمر قدم لينين تقريراً مهماً حمل اسم (مرض اليسارية الطفولي في الشيوعية). وقد اسماه لينين بالطفولي لأنه كان حديث الولادة في الحركة الشيوعية العالمية كان ما زال جديداً على الحركة وأحد محفزاته كان الأهمية العالمية لثورة اكتوبر.
لينين في هذا التقرير تحدث عن الاهمية العالمية لثورة اكتوبر وجزأها الى جزأين: الاهمية العالمية للثورة (بالمعنى الضيق للكلمة) والاهمية العالمية لها بالمعنى الواسع للكلمة.
واوضح انه يعني بالمعنى الضيّق (ان الثورات العظيمة، ستنجز في بعض المهام الاساسية ما انجزته روسيا) أما بالمعنى الواسع فهو يقصد تأثيراتها المباشرة على النطاق العالمي ومنها كما معروف الثورات البروليتارية في بعض البلدان الاوربية وفي المقدمة منها الثورة الالمانية عام 1918 والتي استشهد بعد فشلها كل من كارل لبكنيخت وروزا لوكسمبورغ.
ومن بين ما تطرق اليه في ذلك التقرير موضوعة (المساومات) وقسمها الى قسمين مساومات مشروعة ومساومات غير مشروعة وضرب مثلاً من حادث وقع له في احدى ضواحي العاصمة حيث فاجأته عصابة قطاع طرق خرجت له من غابة مجاورة للشارع الذي تسير فيه السيارة التي تقله لم يكونوا يعرفون شخصيته فأصرّوا عليه بأن يتنازل لهم عن السيارة والمسدس الذي معه والاّ فالموت، سلمهم السيارة والمسدس وغادر المكان اذ توجه الى مقر الحكومة مباشرة فأرسل قوات تكفي لتطويق الغابة وتمشيطها واعتقال العصابة واسترجاع السيارة والمسدس منهم.
سلّمهم السيارة والمسدس وحافظ على حياته ليس من اجل المحافظة على حياته فقط بل ولتخليص المجتمع من تلك العصابة. وقد تم تمشيط الغابة واعتقال العصابة وتنفيذ حكم الاعدام بهم جميعاً.
هذه الحادثة تطرق اليها ليوضح الفارق بين المساومة المشروعة والمساومة غير المشروعة فالفارق كبير بين ان تسلمهم السيارة والمسدس من اجل اعطاء نفسك فرصة لاعتقالهم وتنفيذ حكم الاعدام بهم وبين ان تسلمهم السيارة والمسدس وتصبح شريكاً لهم في اعمال السطو والتسليب والاستيلاء على ممتلكات الغير.
ثم تطرق الى ان كارل ماركس قد تحدث عن الصراع الطبقي وكيف انه يفضي في النهاية الى قيام سلطة (دكتاتورية البروليتاريا) التي اكد انها ستكون (اداة بناء المجتمع الخالي من الطبقات) لينين في تقريره والذي جاء على ضوء الممارسة العملية (التطبيق العملي للنظرية) والتي من خلالها يشذب الفكر وتشذب النظرية فاجأ المندوبين بأن قال انها (دكتاتورية اقليّة) واوضح فقال: ان تعداد الشعب الروسي (كذا) مليون وتعداد البروليتاريا الروسية (كذا) مليون، اما تعداد الحزب الشيوعي الروسي (فكذا) الف وعضوية اللجنة المركزية خمسة عشر رفيقاً. واكد ان جميع القرارات تصدر من اللجنة وكافة المقترحات والقرارات التي تصدر لابد ان يصادق عليها من قبل اللجنة ايضاً.
وعليه وعلى ضوء ذلك الواقع أكد لينين انهم من اجل ان يمارس الشعب الديمقراطية بنفسه ولنشر الديمقراطية في البلد اخذوا يتوسعون في تشكيل مجالس السوفييتات في المدن والارياف وتوسيع صلاحياتها. تم كان المؤتمر الثاني للكومنترن الذي عقد بعد سنتين أي في العام 1921 قبل وفاة لينين بثلاث سنين فقط. وفي هذا المؤتمر قدم لينين تقريره الشهير عن المسألة الزراعية تحت العنوان (موضوعات في المسألة الزراعية). وهنا كانت المفاجأة الثانية والفارق بين الطرح التجريدي والطرح الناجم عن الممارسة العملية.
لينين في مؤلفه (خطتا الاشتراكية الديمقراطية في الثورة الديمقراطية) طرح تصوره عن التحالفات الطبقية التي تدخل فيها البروليتاريا فأكد انها في الثورة الديمقراطية تتحالف مع (جميع مراتب الفلاحين) اما في الثورة الاشتراكية فهي تتحالف مع (فقراء الفلاحين) (وبالضد من أغنياهم (مع) تحييد متوسطي الفلاحين) هذا ما كان عام 1905.
أما بعد اكتوبر المجيد فقد تغيّر الطرح، لقد أكد لينين اشتراك جميع مراتب الفلاحين في ثورة اكتوبر التي قال عنها في تقريره (وبهذا المعنى فأن ثورة اكتوبر كانت ثورة برجوازية ولم تكتسب طابعها الاشتراكي الاّ بعد ان شكلنا لجان الفلاحين الفقراء).
لقد عملت الكومنترن طيلة فترة عملها على النشر الافقي للأحزاب الشيوعية مقدمة لها وللعاملين في هذا المجال شتى المساعدات المادية والمعنوية وهنا انصح بالرجوع الى المؤلف المعنون (القضية الفلسطينية في الوثائق السرّية للكومنترن) وما نشرته وتنشره (الثقافة الجديدة) تحت العنوان (نصوص قديمة) ترجمة عبد الله حبة.
اسست (جامعة كادحي الشرق) والتي تحول اسمها لاحقاً الى (معهد العلوم الاجتماعية) وذلك من اجل تثقيف كوادر الاحزاب الشيوعية بالثقافة الماركسية وبطريقة منهاجية والتي استمر عملها في موسكو الى حد الانهيار المدوّي للتجربة السوفياتية وتفكك الاتحاد السوفياتي. وكان كل حزب يشكل يصبح عضواً في الكومنترن وبالطبع كان الحزب الشيوعي العراقي عضواً فيها حتى حلّها عام 1943 .
عام 1943 حضر الى بغداد –سرّاً طبعاً- المواطن العراقي مهدي هاشم الذي كان احد الرفاق التسعة الذين اجتمعوا في بغداد عام 1934 واعلنوا عن تشكيل الحزب الشيوعي العراقي والذي حمل ولمدّة سنة واحدة اسم (لجنة مكافحة الاستعمار والاستثمار) والذي نفي الى ايران بعد الضربة القمعية التي وجهت للحزب اواخر عام 1936، حضر الى بغداد وكان يحمل دعوة من الكومنترن موجهة الى قائد الحزب ومؤسسه الشهيد فهد للتوجه الى موسكو لتبادل الرأي وتقرير مصير الكومنترن وقد توجه الشهيد فهد فعلاً الى موسكو وفي الاجتماع الذي عقده الكومنترن تقرر حلّ الاممية الثالثة (الكومنترن) والاستعاضة عنها بالاجتماعات التشاورية التي تعقد للأحزاب بين آونة واخرى آخذين بنظر الاعتبار مسألة مهمة وهي تطور عمل الاحزاب الشيوعية وتطور الحياة بحيث لم يعد بالإمكان قيادة الاحزاب من مركز واحد فلكل بلد ظروفه الموضوعية الخاصة (واهل مكة ادرى بشعابها) كما يقول المثل المعروف.
كما تقرر في حينه من قبل الكومنترن تشكيل مركز لتبادل المعلومات وأطلق عليه تسمية الكومنفورم والذي أشرف على اصدار مجلة نظرية سميت (الوقت).
بعد انتهاء اعمال الكومنترن عاد الشهيد فهد الى بغداد وآنذاك أي عام 1943 لم يكن للحزب لا ميثاق وطني ولا نظام داخلي.
حنا بطاطو في مؤلفه عن العراق والحزب الشيوعي العراقي اعطى رأياً صريحاً بأن الشهيد فهد كان الوحيد من قادة الحزب المؤهل لإعداد الميثاق الوطني والنظام الداخلي، والذي عمل على اعادة بناء الحزب أخذ يهيئ المنظمات الحزبية لعقد المؤتمر الحزبي باعتباره صاحب السلطة لإقرار الوثائق الحزبية الاساسية –الميثاق الوطني والنظام الداخلي-ومن اجل الوضوح الفكري لدى المنظمات الحزبية أصدر كراس (حزب شيوعي لا اشتراكية ديمقراطية). وفي آذار 1944 عقد الكونفرنس الحزبي الأول –في دار القائد النقابي المعروف علي شكر-في باب الشيخ وفيه اقرت الصيغة التي اعدها الشهيد فهد للميثاق الوطني. حضر الكونفرنس 19 رفيقا. وفي آذار 1945 عقد المؤتمر الاول للحزب وفيه تم اقرار الصيغة التي أعدها الشهيد فهد للنظام الداخلي للحزب.
وبانعقاد المؤتمر -في دار يهوذا ابراهيم صديق في الصالحية-أصبح لدى الحزب ميثاق وطني ونظام داخلي ولجنة مركزية منتخبة وسكرتير عام منتخب من قبل المؤتمر وخط سياسي واضح رسم وفق تصور صحيح لمآل الحرب العالمية الثانية وما سيتبعها من وضع سياسي على نطاق العالم والعراق جزء منه.
فالمجد للذكرى المئوية الاولى للكومنترن والخلود لقائد الحزب الشيوعي البلغاري جورج ديمتروف الذي أمضى السنين الطوال سكرتيراً اولاً للكومنترن.

عرض مقالات: