تأسست قمة العشرين الاقتصادية العالمية في أواخر تسعينيات القرن الماضي بعد بضعة أعوام من انهيار الاتحاد السوفييتي القوة العظمى الثانية في العالم بعد الولايات  المتحدة والذي كان يقود  المعسكر الاشتراكي في مواجهة المعسكر الرأسمالي بزعامة الأخيرة ، ومع أن القمة تضم دولتين مناوئتين لسياسات  الولايات المتحدة ، ألاهما روسيا والصين الاشتراكية ،  إلا أن مركز الثقل أو والكفة تميل للأولى وحلفائها الدول الغربية في هذه القمة . وبإختتام قمة العشرين الأخيرة في مدينة أوساكا اليابانية أواخر الشهر  الماضي وصدور بيانها الختامي فإن الحدث الغائب عن محيطها الخارجي ، بالقرب من مكان انعقادها ،  يتمثل في الاحتجاجات الشبابية الشعبية القوية السنوية ضد أقطاب القمة من الدول الرأسمالية الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة ،  وتحظى باهتمام وسائل الإعلام العالمية بنفس قدر اهتمامها بالقمة ، وغالباً ما تكون هتافات وشعارات المحتجين موجهة ضد تلويث البيئة الكونية والتغير المناخي ،  والبطالة ،  والعنصرية وغيرها من القضايا والأزمات المتعددة التي تحمل بصمات جرائم الرأسمالية العالمية وفي مقدمتها الولايات المتحدة و التي تؤثر في حياة واستقرار وأمن ورفاهية شعوب العالم ، بمن فيها شعوب الدول الرأسمالية نفسها .

ومع أن قطاعاً كبيراً من المشاركين في هذه الاحتجاجات يأتون من  خلفية منابت فكرية وثقافية متعددة ، ومنهم مجاميع مُنظَمة  تمثل اليسار أو قريبة منه ، ومنظمات الخٌضر أو المدافعة عن البيئة ، واخرى تمثل مؤسسات المجتمع المدني ، ولا سيما النقابات العمالية والمهنية المختلفة ، وبالنظر  أيضاً إلى أن  أعمال العنف  تتخلل تلك المسيرات السلمية وأماكن تجمعاتها في كثير من الأحيان ، فإن كل ذلك يٌحمّل الدولة المُضيفة  أعباءً  ومسؤوليات جمة في منتهى الخطورة بغية تأمين وحماية مكان انعقاد القمة التي يحاول المحتجون الوصول إلى أقرب نقطة من المكان فضلا عن سلامة وأمن المشاركين فيها . لكن اليابان الدولة المضيفة نجحت بامتياز من خلال تدابيرها الأمنية المشددة واختيارها الموفق بجعل مدينة أوساكا مكاناً لإنعقاد القمة بدلاً من العاصمة طوكيو في بتوفير أقصى درجة من الأمن لمكان انعقاد القمة ولجميع أقطاب وأعضاء الوفود المشاركة في القمة.

  و في تقديرنا ثمة أسباب ذاتية وموضوعية متشابكة ساهمت أيضاً بدورها في النجاح الأمني المحرز  ، ويأتي على رأس الاسباب الذاتية ضعف اهتمام -على ما يبدو - المنظمات والمجاميع الشبابية في اليابان بالقضايا العالمية الراهنة المشتركة قياساً بقوة هذا الاهتمام نفسه من قِبل الجهات والمنظمات الشعبية والاهلية السالفة الذكر  في الدول التي سبق أن عُقدت القمة فيها، لا سيما الدول الغربية .   ولاشك بأن غياب اهتمام أو ضعف  المنظمات المعنية بالبيئة في اليابان في ظل  زيادة توحش الرأسمالية العالمية التي باتت تستقطب معاداة واحتجاجات فئات ومجاميع عالمية من خارج اليسار  لمدعاة لإخضاع  هذه الظاهرة السلبية في اليابان إلى تحليلات ودراسات معمقة عن أسباب عزوف تلك القوى والمنظمات في هذه الدولة الرأسمالية الشرقية  دون نظرائها من الدول الاخرى بهذه الصفة السلبية  .     

 وباستثناء المبدأ / الهدف المتعلق بتطوير فرص العمل ،على ما في نصه من هلامية ،  علاوة على انعدام أي جدية لتطبيقه ، فأن سائر المباديء والاهداف الاخرى التي ترفعها وتتبناها قمة العشرين أشبه بالفضفاضة لا يمكن تحقيق الإستفادة الفعلية منها لصالح شعوب العالم  ، ولا يمكن ترجمتها إلى نتائج ملموسة فوق الأرض منذ تأسيس القمة أواخر تسعينيات القرن الماضي ، ناهيك عما تنفرد به الولايات المتحدة حالياً من ممارسات ونزعات نحو الهيمنة الكونية لا سابق لها في تاريخ العلاقات الدولية  المعاصرة وربما في تاريخ الولايات المتحدة نفسها أيضاً ، ومن ذلك نزوعها للهيمنة  على مسار التجارة العالمية الحرة وتقييدها برمتها لمصالحها ،  وانتهاك مبادئها وقوانينها الدولية عبر الاجراءات الحمائية وبطريقة موغلة في التعسف بما يُعرّض المصالح التجارية لدول العالم للخطر والخسائر ومن بينها الكبرى الرأسمالية نفسها ، بمن فيعا اليابان الدولة المضيفة للقمة الأخيرة  ،  فضلاً عن روسيا المدرجة ضمن لائحة العقوبات الامريكية على خلفية تضارب مواقف ومصالح الدولتين من الأزمة السياسية الداخلية الاوكرانية ، وكذلك فرض العقوبات الاقتصادية غير المشروعة على بعض دول العالم الثالث التي لا تروق لها سياستها - كفنزويلا وإيران - حيث وضعت نفسها وصية على شعبيهما لتبرير هذه العقوبات لصالحهما من خلال تأديب نظاميهما الدكتاتوريين على حد زعمها  . وهي إلى ذلك لم تكتفِ بالانسحاب من اتفاقية دولية متعددة الاطراف لتسوية ملف الثانية النووي، بل وتهديدها بتأديب كل من لا يؤتمر بأوامرها في السير على خطى عقوباتها وفق مصالحها السياسية الاقتصادية الضيقة. ومن ثم فإن انتهاج سياسة متشددة ومتقلبة رعناء كهذه هذه إنما تهدد وتقوّض ليس مصالح الدول التجارية فحسب، بل أسس السلم العالمي كما حدث ويحدث في الخليج العربي حيث تعمد واشنطن إلى اتباع سياسة حافة الهاوية بتأجيج فتيل التوتر في هذه المنطقة الاستراتيجية الحيوية في العالم من خلال بالتحالف مع حليفاتها العربيات  التابعات لها على خلفية صراعهم مع ايران .

والحال فإنه بدون  توفير تدابير أسس السلم والاستقرار  الجماعي في المنطقة من خلال معاهدة أمن جماعية ، وكذلك في كل بؤر التوتر  الملتهبة حالياً في عالمنا العربي وسائر مناطق العالم يستحيل الحديث عن أي تنمية أو رخاء اقتصادي وفق أي معايير دولية لنجاح خطط التعاون الاقتصادي بين مختلف دول العالم وتحقيق مستويات معقولة من التنمية الإقتصادية ورفاه الشعوب في الدول النامية  .    

وهكذا فلا غرابة إذن إذا ما جاء بيان القمة الأخيرة هزيلا لا يعكس  التوافق على أهم  القضايا الحيوية الآنية التي وُضعت على أجندة أعمالها ، ومن ذلك على سبيل المثال مسألة الحمائية التجارية التي توظفها واشنطن في حروبها التجارية ضد منافسيها التجاريين وعلى رأسهم الصين ، حيث نجحت ضغوطها في تفادي  البيان حتى مجرد الإلتماس بنبذ هذا السلاح أو عدم التعسف في استخدامه ولو دون الإشارة إليها بالإسم . وفيما يتعلق بالمناخ فمع أن البيان  أكّد على التمسك باتفاقية باريس لكنه لم يشر،  ولو غمزاً على الأقل ، لخطورة انسحاب واشنطن منها إرضاءً لخاطر السيد  الامريكي داخل القمة وتجنباً من عواقب تهديداته . إلى ذلك فقد  اعترف البيان الختامي  بأن النمو الاقتصاد العالمي العالمي لا يزال ضعيفاً ، وأن الاحتمالات تتجه للأسوأ مع تصاعد التوترات التجارية والجيوسياسية . 

 والحال فإنه في ضوء غياب الحدث الموازي للقمة ( الاحتجاجات ضد الرأسمالية )،  وما تمخض عن أعمال القمة الأخيرة من بيان هزيل ، فإن القمة تكاد تتحول إلى مناسبة دولية موسمية تٌستغل لإلتقاط الصور التذكارية الجماعية لأقطاب القمة ، أو لإلتقاط صور على صعيد اللقاءات والاجتماعات الثنائية لأعضائها ، كما باتت القمة تُتخذ من قِبل بعض قادة الدول الخليجية وسيلةً لتسول  اللقاءات الجانبية على هامش القمة ، و تُوظف أيضاً لخروج بعض قادتها الدكتاتوريين بمنطقتنا العربية من عزلتهم الدولية بمباركة حلفائهم الدوليين وعلى رأسهم الولايات المتحدة وذلك للإستمتاع بشيء من الأضواء الإعلامية الخاطفة ، لعل ذلك يكون بوابة لكسر العزلة بشكل نهائي وتناسي المجتمع الدولي جرائمهم بحق الإنسان . وكذا فإنها تُوظف أيضاً لعقد اللقاءات الثنائية بين بعض أقطابها الكبار  لعقد مصالحات طارئة على سبيل جس النبض والاختبار المتبادل ( أمريكا وروسيا نموذجاً ) .

لكن تبقى الفائدة الأهم هي التي تخص تحديداً القوى المناهضة للرأسمالية والعولمة ، لما تمثله القمة  من فرصة سنوية لخطف أنظار وسائل الإعلام العالمية لتقوية وتطوير الاحتجاجات وتكثيف الضغوط ضد سياسات الرأسمالية على الصعيدين الإقتصادي والبيئي كافة . وفيما فيما يتعلق بهذا الصعيد الثاني والمعني به قضايا  التغير  المناخي وتلوث البيئة ، فكلها قضايا مهمة بالغة الحيوية لما لها من صلة بمستقبل الحياة البشرية على الأرض والذي تقابله الولايات المتحدة عادةً  - للحفاظ على مصالحها الاستثمارية الانانية الضيقة - باستخفاف بالغ يتناقض و كونها أكثر دول العالم تقدماً في العلم والتكنولوجيا ومن ثم فإنها تُفترض الأكثر وعياً وإحاطةً علميةً بمآلاتها وتبعاتها الخطيرة على سكان كوكبنا ، بل ومجمل الحياة الفطرية فيه إذا ما تُركت دون معالجة بأدنى الحلول الممكنة وقد تجلى هذا الاستخفاف بوجه خاص بعد انسحابها من اتفاق باريس للمناخ عام 2014 .   

مهما يكن فإن اجتماعات قمة العشرين السنوية إنما تُعقد بالدرجة الأولى لمصالح الدول الرأسمالية ، واذا ما نجحت في إصدار  توصيات وقرارات لصالح شعوب العالم ،  وبخاصة فيما يتصل بالقضايا المشتركة التي تهم البشرية ، فإنه عادةً ما يأتي  ضئيلا للغاية . ومن هنا تبرز الحاجة الملحة لأن تستغل قوى الخير والحرية والسلم في العالم ، بمختلف اتجاهاتها وتخصاصاتها ، هذه المناسبة لإبراز صوتها المشترك القوي من خلال المحافظة على انتظام مواصلة الاحتجاجات أثناء الانعقاد السنوي للقمة  ضد الهيمنة الرأسمالية العالمية وعلى رأسها الولايات المتحدة بغية تكثيف الضغوط على المؤتمرين في القمة لحملهم على اتخاذ أدنى حد ممكن من القرارات والسياسات ذات المصالح المشتركة لشعوب العالم ومستقبل حياة البشرية جمعاء على كوكبنا ، وعلى ألا ينصب جل اهتماماتهم على مصالح الطبقات الرأسمالية الشيقة الأنانية التي تمثلها أنظمتهم .            

 

عرض مقالات: