لقد كان الاعتقاد السائد في خمسينيات القرن الماضي وخصوصاً بين الباحثين في نظريات النمو الاقتصادي ان المعرقل الأكبر الذي يواجه العملية التنموية في الدول الناشئة هو ضعف السوق المحلية والذي يوفر السيولة المالية اللازمة للنهوض بالواقع التنموي لهذه الدول، والاعتقاد الجازم ان التدفقات المالية التي يمكن ان توفرها الموارد الطبيعية المكتشفة في هذه الدول تمثل الحل الأمثل لهذه القضية، ولاتزال طبقة واسعة من الناس في هذه البلدان تنظر الى الوفرة المالية المتحققة من ذلك الطريق على انها أسهل الطريق وأقصر المسافات لبناء بلدانهم وتحقيق النمو الاقتصادي والاجتماعي المنشود .
ومن جهة ثانية هناك نظرة مغايرة تبناها العديد من الأساتذة والخبراء والباحثين الاقتصاديين ترى خلاف ذلك التوجه حول مدى فاعلية الإيرادات التي تدرها الموارد الطبيعية في تحقيق التنمية الاقتصادية المنشودة، محذرين من وقوع هذه الدول (ومنها العراق ومنذ فترة ليست بالقصيرة) في فخ هذه الموارد الطبيعية والتي اطلق عليها (الريع) بسبب الاعتماد المطلق عليها وبشكل حولها تدريجياً الى قيد قصم ظهر الاقتصاديات المحلية لهذه الدول خلال عقود طويلة بالرغم من الآمال التي عقدت من قبل غالبية الناس ورهانهم على هذه الموارد .
ولعل من المناسب الإشارة السريعة الى معنى الريع من جهة والدولة الريعية من جهة أخرى والذي قد يكون خافياً على العديد من الناس، وقد عرفت النظرة الكلاسيكية الريع بأنه الجزء الذي يدفعه المستأجر الى المالك من غلة الأرض نظير استغلال قواها الطبيعية. اما النظرة المعاصرة فقد اعتبرت الريع نمطا اقتصاديا يعتمد على الموارد الطبيعية دون الحاجة الى الاهتمام بتطويرها، ومن أمثلة هذه الموارد المعادن، والمياه، والنفط، والغاز، اما الاقتصاد الريعي فإنه اعتماد دولة ما في اقتصادها على مصدر طبيعي مستخرج من الأرض فيصبح بذلك الاقتصاد معتمداً على التبادل التجاري الذي يؤدي الى ظهور مجتمع استهلاكي مرتبط بالاستيراد ولا يهتم بالزراعة او الصناعة.
ويعود الفضل في بيان وتأسيس المعنى الاصطلاحي للريع للباحث حسين مهدوي في بحثه (نمط ومشاكل التنمية الاقتصادية في الدول الريعية) عام 1970 والذي يعد أول من أشار الى مفهوم الدولة الريعية على انها الدولة التي تعتمد بالدرجة الأولى على دخل ريعي يتأتى من مادة أولية، في حين عمل حازم البيبلاوي على تحسين وتطوير هذا المفهوم من خلال تحليل الدولة الريعية الى أربع سمات رئيسة هي :-
1. ان يكون الدخل الرئيس للدولة هو الريع المتأتي من مورد طبيعي (نفط او غاز).
2. تشكل الايدي العاملة المنخرطة في الإنتاج نسبة ضئيلة من القوى القادرة على العمل.
3. الدخل الناتج عن الريع يتأتى من الخارج.
4. تكون الدولة هي الجهة المتلقية لأموال الريع وهي المسؤولة عن أوجه إنفاقه.
وقد عرف الأستاذ صبري زاير السعدي الاقتصاد الريعي بانه "الاقتصاد الذي يعتمد على الريع المتولد من انتاج النفط او الغاز المملوك كلياً للدولة" ، ان الخشية من الأموال السهلة التي توفرها الموارد الطبيعية رافقت العديد من الاقتصاديين وان كانت هذه الخشية قد اختلفت باختلاف التجربة الاقتصادية للدولة الريعية كما بين الدكتور عامر جميل والدكتور مانع حبش في بحثهما الموسوم (إشكالية التناقض بين الريع النفطي والتنمية المستدامة في العراق) حيث أشاروا الى ان هذه المخاوف تمثلت في بداية خمسينات القرن الماضي من التبادل غير المتكافئ للتجارة الخارجية بين الدول المتقدمة والدول النامية، أي بين تجارة السلع الصناعية المنتجة وتجارة المواد الأولية ، اما في سبعينات القرن المنصرم فان المخاوف كانت من الفشل الاقتصادي لبلدان الموارد الطبيعية والتي صارت تحال الى تأثير تذبذب الصادرات النفطية على البلدان المصدرة للنفط ، وبعد ذلك كانت المخاوف في الثمانينات تدور حول المرض الهولندي ومشاكله الاقتصادية والذي يشير "الى ارتفاع قيمة العملة المحلية بسبب تدفق العوائد المالية الكبيرة من العملة الاجنبية نتيجة ازدهار الموارد الطبيعية" ، ثم تحولت الخشية الى مراقبة السلوك الاجتماعي والسياسي للحكومات النفطية وتحولها نحو الديكتاتوريات وكبح الحريات العامة نتيجة توفر السيولة المالية في تلك الدول .
ومن الملاحظ استمرار المخاوف والخشية المتواصلة من الآثار السلبية للموارد الطبيعية بسب الاستغلال المفرط والانغماس في الفخ الريعي الذي وقع فيه العديد من الدول النفطية ومن ضمنها العراق، ويمكن حصر واختزال الاثار السلبية للأموال السهلة المتحصلة من الموارد الطبيعية بمحورين رئيسين :-
• الآثار الاقتصادية: والتي تتمثل بالابتعاد عن القطاعات الإنتاجية المختلفة وإهمالها، والاكتفاء بالموارد الطبيعية والتركيز عليها بما يضمن المزيد من الإيرادات، وان كان ذلك يؤدي الى التجاوز على حقوق الأجيال القادمة من الموارد الطبيعية التي يتم استنزافها بشكل مفرط لتغطية الالتزامات الآنية، مع غض النظر عن التقلبات في أسواق الطاقة العالمية وتأثيراته السلبية وتراجع وإهمال قطاعات الصناعة والزراعة والسياحة والتجارة الخارجية وغيرها من القطاعات التي تعتبر القاعدة المتينة لأي اقتصاد حقيقي، والتحول التدريجي الى مجتمع استهلاكي يقوم بإنفاق ثرواته الطبيعية على استهلاك السلع والخدمات المستوردة وبشكل يؤدي في نهاية المطاف الى ارتفاع نسب البطالة بين أبناء البلد، ومن الملاحظ ارتفاع نسبة البطالة في معظم الدول الريعية مثل السعودية والذي وصل معدل البطالة فيها الى 12‎ في المائة‎ و الامارات 14‎ في المائة‎ والكويت 6‎ في المائة‎ و عمان والبحرين 8‎ في المائة‎ ، وهذا تحديداً ما حصل للعراق ابتداء من ثمانينات القرن الماضي وتجلى بكل وضوح بعد عام 2003 ولغاية الان حيث هجرت آلاف المعامل والمصانع الصغيرة والمتوسطة مع تراجع الزراعة وتخلفها وموت آلاف الدونمات من الأراضي الزراعية بسبب توقف الإنتاج المحلي والاعتماد المطلق على الاستيراد، وتحول البلاد الى مكتب صيرفة كبير كل همها هو بيع النفط وتوزيع ايراداته على المواطنين من خلال موازنات هزيلة يصل الجانب التشغيلي فيها الى قرابة 79‎في المائة‎ من القيمة الكلية للموازنة بعيدا عن أية خطة تنموية وتطويرية حقيقية او آلية عمل للنهوض بالواقع الاقتصادي المتهاوي منذ عقود، وارتفاع نسبة البطالة فيه الى قرابة 22.6‎في المائة‎ كما اعلن الجهاز المركزي للإحصاء التابع لوزارة التخطيط في 23/8/2018 في الوقت الذي اعلن صندوق النقد الدولي في أيار 2018 ان معدل البطالة في العراق بغ اكثر من 40‎ في المائة‎ ، مع غياب التخطيط الحكومي لخلق فرص عمل للعاطلين وعجزه عن استيعاب مئات الآلاف من خريجي الجامعات والمعاهد بسبب ضعف القطاع الخاص وهيمنة التوجه الاقتصادي الريعي، والاعتماد على التعيينات الحكومية كحل ترقيعي لهذه المشكلة المتجذرة في المجتمع فشلت في توفير فرص عمل جديدة تضمن لأبنائها الحياة الكريمة.
• الاثار الاجتماعية: ان من أخطر نتائج الاقتصاد الريعي هو الاعتماد المطلق من قبل الحاكم على الأموال السهلة التي توفرها الموارد الطبيعية والاستغناء عن باقي القطاعات الإنتاجية والزراعية والسياحية والتحويلة والاستخراجية وغيرها واهمالها، بل ان الحاكم في هذه الدول قد يجدها العائق الرئيس امام تفرده بالسلطة حيث ان نشاط هذه القطاعات وتطورها يمكّن المواطن من توجيه أصابع النقد والتحليلي للخطط الحكومية وسياساتها الداخلية وحتى الخارجية، لكون المواطن سيكون هو المصدر الرئيس للإيرادات الحكومية من خلال الضرائب والرسوم التي تفرضها الدولة عليه وهو المصدر الاساسي لملء الخزينة المركزية من خلال كونه دافع الضرائب التي تخوله المطالبة بالخدمات وتوفير فرص عمل حقيقية تمكنه من دفع الالتزامات المالية المفروضة عليه، ولن يكتفي بالوعود الزائفة ، لذا فإن النهج الريعي للاقتصاد والاكتفاء بالأموال السهلة كفيلة بخلق نظام ديكتاتوري يعمل على تسخير الأجهزة الأمنية والاستخبارية والعسكرية لخدمة الحاكم وطبقته الحاكمة ومحاولة شراء الناس بعد ان تفيض خزائن الدولة من أموال الريع، مع الاعتماد على طبقة من المرتزقة والفاسدين ومحترفي التملق لتدعيم أساس الحكم وتثبيت جذور الحاكم الذي يتحول شيئاً فشيئاً الى ديكتاتور يستلهم قوته من الواردات الطبيعية السهلة، فليس من مصلحته ظهور طبقة صناعية وزراعية ذات نفوذ مستقل تصبح فيما بعد منافساً له، والامثلة على هذا النموذج لاتعد ولا تحصى وتكفي ان نفتح اعيننا على ما يحيطنا من فوضى لنفهم الاثار الاجتماعية للريع في ماضيها وحاضرها .
ان التجربة الاقتصادية والاجتماعية التي عاشتها معظم الدول النفطية ومنها العراق اثبتت من خلال الواقع ان الاموال السهلة المتحصلة من الموارد الطبيعية لهذه الدول والتي تأخذ طريقها للخزينة المركزية كانت احد اهم الأسباب في تدهور اقتصاده المحلي وارتفاع نسب البطالة بين أبنائها وقد تكون الحافز الأكبر لنشوء اعتى الديكتاتوريات وأكثرها تسلطا كما كان الحال في العراق وليبيا والسعودية وفينزويلا والمكسيك والعديد من الدول النفطية التي عانت شعوبها الأمرين بسبب هذه الأموال التي لم يحسن استثمارها او استغلالها وترك الامر نحو انفاقها فقط مع توجه المجتمع نحو الاستهلاك والتكاسل عن بناء اقتصاد متين يستمد قوته من صناعته المحلية واكتفائه الذاتي، بل ان التجربة العالمية التي خاضتها العديد من الدول مثل النرويج وماليزيا اثبتت ان النمو الاقتصادي المنشود لا يكون الا من خلال الابتعاد عن الأموال السهلة واعتبار إيرادات الريع ضمان للأجيال القادمة من خلال تأسيس صندوق سيادي يوضع فيه الفائض من هذه الأموال بعد استقطاع جزء يسير منه اما باقي الالتزامات المالية الحكومية فتتم من خلال تشغيل المصانع والمعامل وزراعة الأراضي والاهتمام بباقي القطاعات التي تعتبر العماد الحقيقي لأي اقتصاد حر وسليم.

عرض مقالات: