يتمثل أحد المستلزمات الأساسية للتغيير في توحيد جهود القوى الساعية اليه، وهي تشمل قوى الحراك التشريني وسائر الفئات والشرائح والتنظيمات السياسية والاجتماعية، التي عبرت عن مطالبها المشروعة، الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وعن رفضها لمنظومة المحاصصة وما تتسبب فيه من فساد وخراب ومظالم ومآسٍ.
من المعلوم أن القوى المتنفذة في هذه المنظومة قد تغوّلت على مدى سنوات من اتباعها نهج المحاصصة، عبر تحكمها بموارد الدولة وامتلاك معظمها أذرعا عسكرية، فضلا عن استحواذها على مقدرات البلاد في مجالات الحياة الأساسية، خصوصا الاقتصادية والاعلامية، من خلال شبكات الفساد، ومنهج التخادمات الزبائنية والسياسية، والتشابك المتزايد بينها وبين قوى الرأسمالية الطفيلية.
وطبيعي أنه لا يمكن تغيير أوضاع البلاد الا من خلال تغيير موازين القوى، عبر تصويب مسارات عملية التحول الديمقراطي وتخليصها من كل العوامل التي تؤثر على ارادة الناخبين وفي نزاهة الانتخابات، مثل غياب قانون انتخابات عادل ومفوضية اننتخابات مستقلة حقا، الى جانب منع المال السياسي والسلاح المنفلت وخلق بيئة آمنة وسليمة لممارسة الشعب ارادته الحرة، واعتماد التغيير بالوسائل السلمية وتعبئة القوى الداخلية، بعيدا عن الاستقواء بالخارج.
ويتجلى أحد عوامل الضعف الأساسية التي تعاني منها قوى الاحتجاج والتغيير، سواء منها قوى الحراك الناشئة أو القوى والأحزاب المدنية والديمقراطية، في حالة التشتت وضعف التنسيق في ما بينها. هذا في الوقت الذي شهدنا، طوال السنوات الأخيرة، تناميا متسارعا للسخط والتذمر الشعبيين، وتعددا لصيغ وأشكال الاحتجاج من جانب القوى والفئات الاجتماعية المسحوقة والمتضررة، على مختلف الصعد القطاعية والمناطقية، والتي كانت انتفاضة تشرين تعبيرها الأكثر عنفوانا.
وبسبب من نقاط الضعف هذه، وما يترتب عليها من عدم قدرة على توحيد الرؤى وصياغة ستراتيجيات وتاكتيكات فعالة، لم تحقق هذه القوى مجتمعة، ورغم كل اصرارها وتضحياتها الجسام، الأهداف التي تكافيء تلك التضحيات، فضلا عن تأمين القدرة التنظيمية والتعبوية اللازمة لتحويل السخط المتعاظم الى قوة سياسية فاعلة.
وعلى خلفية هذا التشخيص والتقييم لتجربة الانتفاضة وما سبقها من حراك احتجاجي متعدد الجوانب، توصل الكثير من قوى التغيير السياسية الى ضرورة العمل الجاد على تجاوز هذا التبعثر، والسعي الى ايجاد أطر مرنة مناسبة توحد عملها، على أساس المشتركات التي طرحت انتفاضة تشرين العديد منها عبر شعاراتها، وبينها شعار (نريد وطن)، العابر لكل التخندقات الطائفية والاثنية، وشعار التغيير وازاحة منظومة الفساد واحلال دولة المواطنة والعدالة الاجتماعية.
وعلى هذا الأساس انطلقت مبادرات متعددة لتشكيل أطر تنسيقية، وصولا الى صيغ تنظيمية وسياسية أكثر تقدما، كما جرى ويجري تداول العديد من الوثائق السياسية المقترحة لتكون أساسا لهذا العمل المشترك. وفي الوقت نفسه، وارتباطا بذلك، تُطرح مشاريع معينة لعقد مؤتمرات تضم القوى التي باتت تصنف ضمن المعارضة السياسية، أي القوى التي نفهم أنها تعارض نهج المحاصصة الطائفية والاثنية ومنظومتها السياسية.
وإن حزبنا اذ يرحب بهذه التوجهات، يشير في الوقت نفسه الى محاذير اعادة انتاج التشتت وإدامة الانقسامات ارتباطا بتعدد هذه المبادرات، في الوقت الذي نلاحظ وجود الكثير من القواسم المشتركة في هذه الدعوات، والتي يفترض أن تكون محفزا على تقريب وتوحيد المسارات.
وفي هذا السياق نبدي استعدادنا للمشاركة بفاعلية في أي جهد، يستهدف توحيد هذه المسارات على أساس مشروع وطني مدني ديمقراطي. مشروع يجسد أهداف انتفاضة تشرين وتطلعات شعبنا الى الخلاص من مسلسل الأزمات المستحكمة بالبلاد، بفعل نهج المحاصصة ومنظومتها التي تحمي المسؤولين الفاشلين في الأداء، والغارقين في تبديد موارد البلاد وفي دفع الملايين نحو مآسي الفقر والحرمان، في حياة تغيب فيها الخدمات الأساسية وأبسط مقومات العيش الكريم.
إننا ندعو جميع هذه القوى الى تجاوز أية اعتبارات أو خلافات ثانوية، ووضع هدف التغيير المشترك في المقدمة، وإطلاق اللقاءات والحوارات البناءة من أجل أن يكون أي مؤتمر منتظر مؤتمرا جامعا فاعلا في الحياة السياسية، وان يشكل خطوة مؤثرة على طريق التغيير الحقيقي.
ومن المؤكد أن أي مؤتمر لن يكون محطة ختام، بل حلقة ضمن سلسلة من الجهود والخطوات المترابطة والمتتالية لتعزيز وحدة العمل، وتعميق المشتركات، وتوثيق الصلات بالجماهير الشعبية، وتحفيز وتعبئة قدراتها وطاقاتها من أجل التغيير المنشود.