أن بلادنا تعيش ظروفا صعبة ومعقدة وحالة استعصاء ما يتطلب اعتماد رؤى ناضجة متكاملة علمية للخروج من الأزمة العامة الشاملة التي يعيشها بلدنا، ومعالجة ما تراكم من ثغرات ونواقص، وإلى اعتماد برامج واقعية تنطلق من الحقائق التي يعيشها البلد، وطبيعة الترابطات الاقتصادية – الاجتماعية فيه. وان تحظى هذه البرامج بالصدقية في ظل منظور سياسي يتخطى ويتجاوز ما تم اختباره وثبت فشله.

لقد خاضت معظم القوى السياسية الانتخابات الأخيرة رافعة شعارات وبرامج الإصلاح والتغيير ومحاربة الفساد وجعل من أولويات الحكومة الجديدة تخصيص الموارد المادية والمالية والبشرية لتوفير الخدمات الأساسية وبناء البنى التحتية المادية والاجتماعية، وفي قطاعي التعليم والصحة على وجه الخصوص، إلى جانب الشروع الجاد والمنهجي في مكافحة الفساد وتحقيق الإصلاحات في مجالات الإدارة ومؤسسات الدولة المدنية والعسكرية على أسس العدالة والكفاءة والنزاهة والابتعاد عن نهج المحاصصة العرقية والطائفية والاقصاء والتهميش، كما جرى التركيز على إعادة النازحين إلى أماكنهم وتعويضهم وإعادة اعمار المدن المحررة من سيطرة تنظيم داعش الإرهابي.

وبعد انقضاء ما يقارب العشرة أشهر على التئام مجلس النواب الجديد وتسعة أشهر على تشكيل الحكومة الجديدة، لم تتلمس أوساط واسعة من شعبنا، انجاز إجراءات وخطوات عملية ذات آثار ملموسة في مواجهة مشاكل البطالة الواسعة، ولا سيما في صفوف الشباب بما في ذلك خريجو الجامعات والمعاهد، وفي تحقيق تقدم ذي شأن على صعيد تطوير البنى التحتية والخدمات العامة، كما أن خطوات مكافحة الفساد ما تزال متواضعة ولا ترقى إلى جسامة التحدي الذي يمثله استشراؤه في مختلف مفاصل الدولة والمجتمع وتحوله إلى معوق رئيس لعملية الإصلاح السياسي والاقتصادي وجهود البناء والاعمار. ومن حصيلة هذا المسار تنامي مشاعر خيبة الأمل والإحباط وضعف الثقة بالحكومة.

إن توفر إرادة سياسية فاعلة وثقة شعبية يشكلان جناحين مطلوبين وضروريين لمسيرة العملية الإصلاحية الانمائية، فيما يبقى المحك لجدية وأصالة البرامج هي الممارسة، والمعيار هو المنجز، وان المصداقية تكمن في التطبيق الفعلي والنتائج.

ومن التجربة الملموسة فان للمتابعة الجادة المسؤولة وضمن سقوف مالية وزمنية معروفة دورها في تحويل المشاريع الى واقع منجز.

ويقينا أن بناء ثقة الشعب بالحكومة، وتوفير قناعة للناس بجدية الحكومة وصدقية توجهاتها، لا يتم بالحديث والتعهدات، وإنما عبر المزيد من الانجازات الملموسة والمحسوبة في الأمن والاستقرار وتوفير لقمة العيش وحماية حقوق الإنسان.

أن تنفيذ البرنامج الحكومي ببنوده الأساسية أمر مهم وضروري، ولكن هذا لا يمنع أو يحول دون الحديث عن أولويات ملحة فورية، اسعافية، لخلق أجواء اجتماعية ومناخ سياسي ايجابي نحن بأمس الحاجة إليها لضمان تنفيذ الخطط والمشاريع.

أن الشروع في هذا يتطلب تحديد خطوات إجرائية حكومية واولويات تشريعية ومشاريع اقتصادية وخدمية ذات تأثير واضح وواسع في مجالات الإصلاح ومحاربة الفساد وتوفير الخدمات ومكافحة الفقر والبطالة وتحقيق العدالة الاجتماعية، وان يتم تأمين التخصيصات المالية والموارد الضرورية لتنفيذها ضمن آماد زمنية قصيرة.

ولضمان التنفيذ السليم للخطط والمشاريع، تبرز ضرورة التصدي الناجح للبيروقراطية والفاسدين، وتجنب الروتين القاتل، وكذلك المساءلة الجادة عبر التقويم الصادق، ومكافأة الناجحين ومعاقبة الفاشلين وإبعاد الكسالى والخاملين والنفعيين .

ومطلوب ايضا القيام بإجراءات وخطوات متداخلة، والسعي الى تعزيز الأمن والاستقرار ومطاردة الإرهاب وعصابات الجريمة المنظمة والمضي قدماً وبجدية في تطبيق شعار حصر السلاح بيد الدولة وتعزيز سيادة القانون.

ونقدم فيما يلي مقترحات تشمل جوانب تشريعية وتنفيذية نراها ضرورية وذات طابع آنيِّ ومُِلحِّ:

على صعيد اصلاح الدولة والإدارة الحكومية ومكافحة الفساد:

  • الإسراع في إنهاء ملف الدرجات الخاصة والوكالات ضمن سقف التوقيتات القانونية مع تأكيد اعتماد معايير الكفاءة والخبرة والنزاهة والعدالة بعيدا عن اعتبارات المحاصصة الطائفية والعرقية والتحزب الضيق، وبما يضمن تفكيك شبكة الدولة العميقة ويمنع إعادة انتاجها.

  • أن تسارع الحكومة الى تقديم أسماء المرشحين لعضوية مجلس الخدمة المدنية الاتحادي إلى مجلس النواب للتصويت عليها.

  • إعطاء الأولوية لمعالجة ملف المنافذ الحدودية وتوفير الموارد المالية والبشرية لتعزيز دورها في الاشراف على المنافذ وفقا للدستور وتقديم الدعم اللازم لتنفيذ مشاريع الحوكمة الالكترونية في هذه المنافذ في اطار مكافحة الفساد. فبدون ضبط المنافذ الحدودية يتعذر تنفيذ سياسة حماية المنتج الوطني وتطوير قطاعي الصناعة والزراعة وزيادة المصادر غير النفطية لتمويل الميزانية الحكومية.

  • التركيز على تحريك وتفعيل المحاسبة في ملفات الفساد الكبرى.

 مكافحة البطالة وتحريك النشاطات الاقتصادية:

تشير البيانات المتوفرة ان معدلات البطالة في ارتفاع وهي الأعلى بين الشباب والنساء، بضمنهم خريجو الجامعات والمعاهد، واصبحت مؤسساتنا التعليمية والجامعية تخرج سنويا اعدادا متزايدة تُقدَّر بمئات الالآف يلتحق معظمهم بجيش العاطلين. ونتيجة لعدم تقديم الحكومات المتعاقبة اية معالجات اقتصادية واجتماعية جادة لخلق فرص عمل في قطاع الدولة والقطاع الخاص لتحقيق قدر معقول من التوازن في "سوق العمل"، وتأمين متطلبات العيش الكريم لهذه الشرائح الواسعة من المجتمع، ما أدى إلى تراكم مشاعر الاحباط واليأس في صفوفهم والتي هي قيد التحول إلى مشاعر سخط وغضب قد يعبر عنها باشكال مختلفة من الاحتجاج. 

لذا نجد من الأمور الملحة أن تجعل الحكومة من بين أهم اولوياتها وضع خطط وبرامج ومشاريع ضمن الموازنة العامة لعام 2020 تهدف إلى توجيه الموارد المالية والبشرية نحو الانشطة الاقتصادية ذات الأسلوب كثيف العمل. ويعتبر قطاع البناء والاسكان من أهم هذه الأنشطة، لذا ندعو إلى :

  1. التوجه الجاد السريع لحل أزمة السكن ومعالجة قضايا العشوائيات عبر التوجه، إضافة ما تبنته الخطة الإستراتيجية والبرنامج الحكومي، إلى توفير التخصيصات المالية اللازمة لانجاز المشاريع السكنية قيد التنفيذ أو المتوقفة بما يضمن بناء ما لا يقل عن (50) ألف دار سكن، وفقا للبناء العمودي في كل مدن العراق في غضون سنتين. وسيساهم ذلك في تحريك السوق واستيعاب جزء من البطالة وحل المشاكل الاجتماعية، كمقدمة لمشاريع أوسع في السنوات القادمة. وفي هذا السياق تأتي ضرورة تفعيل مؤسسات الدولة والوزارات ذات العلاقة. وحسب تقديرات ذوي الاختصاص تتراوح تكلفة هذه المشاريع ما بين 2.5 و3 مليار دولار، ويتطلب تنفيذها حوالي 3 مليون يوم عمل.
  2. انجاز بناء كل المستشفيات التي لم تستكمل، بهدف تقديم خدماتها السريعة للمواطنين، وتوفير التخصيصات اللازمة لذلك على مدى عامين كحد أقصى.
  3. انجاز كل المدارس التي بُدى بها ولم تستكمل، وتوفير التخصيصات اللازمة لذلك على مدى عامين كحد أقصى.
  4. الإسراع في صرف التعويضات للنازحين والنظر في صرفها جزئيا على شكل حصص من مواد بناء لإعادة بناء منازلهم المهدمة.
  5. وفي اطار المعالجة الاجتماعية والاقتصادية لمشكلة البطالة في صفوف الشباب والنساء، ندعو إلى أن تتضمن موازنة عام 2020 حزمة من البرامج والمشاريع والاجراءات، من بينها :

فتح دورات وورش للتدريب والعمل في مشاريع للخدمات تستوعب عشرات آلاف الراغبين في العمل، ولا سيما الشباب والنساء، ومن ضمنهم حملة الشهادات وللمتدربين. تقدم مساعدة بطالة شهرية مؤقتة خلال عملية التدريب لحين العمل خاصة بالنسبة إلى خريجي الجامعات، وتلك المساعدة تكون بحدود (300) ألف دينار شهرياً.

ويمكن ان يتم التدريب والتأهيل في أطار مؤسسات الدولة إلى جانب ما يمكن ان توفره مؤسسة المعاهد الفنية وكذلك عبر التعاقد مع شركات ومشاريع القطاع الخاص لاستقبال المتدربين في مؤسساتهم، ومع معاهد التدريب الخاصة ومنظمات المجتمع المدني لتقديم برامج تدريبية.

ويمكن أن يشمل هذا التدريب (250) ألف شخص، كمعالجة جادة ومدخل تطمين. ويتم اختيار المتدربين عبر لجان حكومية محايدة، وعلى أساس وثائق  معتمدة. وتقدر تكلفة مثل هذه الدورات حوالي مليار دولار سنويا.

وستساعد هذه الاجراءات العاطلين عن العمل على الدخول مباشرة الى سوق العمل، وتشجع مؤسسات الدولة التي تعاني من قلة الايدي العاملة على سد النقص لديها، كما ستأتي بالفائدة لمؤسسات القطاع الخاص لدعم وتوسيع نشاطها على اعتبار انها أيدٍ عاملة مدربة مجانا، كما يمكن أن تشجع القطاع الخاص على انشاء ورش عمل صغيرة ومتوسطة لاستيعاب المتدربين. وفي المحصلة النهائية تخفض التوتر الاجتماعي من خلال تقليص نسب البطالة وترفع من انتاجية المجتمع.

كما أن هناك حاجة ملحة لخطوات جادة يتوجب اتخاذها للبناء والأعمار، وصولا الى الهدف النهائي المتمثل في تخليص اقتصاد العراق من طابعة الريعي، ومن ضمن ذلك:

  • تقديم الدعم والاسناد للصناعة الوطنية، ومنها صناعات ومعامل مواد البناء والنشاطات الصناعية والخدمية المرتبطة بقطاع البناء الكثيفة العمالة. وهذا من شأنه توفير إمكانية تشغيل العديد من المعامل المعطلة وامتصاص نسبة كبيرة من البطالة.
  • ويستلزم تحقيق الأهداف المرجوة اتخاذ سياسة ضريبية تخدم الصناعة الزراعة الوطنيتين والحد من الاستيراد العشوائي المنفلت وتفعيل السيطرة الحكومية على المنافذ الحدودية .
  • إجراءات دعم وتنشيط دعم القطاع الخاص ولا سيما في الميادين الإنتاجية، وحماية القطاعين الصناعي والزراعي، وذلك يتطلب من بين أمور أخرى مراجعة سياسة المصارف المتخصصة في منح القروض.

في مجال العدالة الاجتماعية :

  • تأمين انتظام توزيع الحصة التموينية وتحسين مفرداتها وإصلاح إدارتها وتخليصها من مظاهر الفساد وسوء الإدارة ورفع كفاءة آليات عملها وضمان وصولها إلى الشرائح الاجتماعية الأكثر احتياجا.

  • إيلاء الأولوية لإصدار التشريعات المتعلقة بتقاعد العاملين في القطاع الخاص والضمان الاجتماعي وتوفير الموارد المالية للصناديق ذات العلاقة وضبط مساهمة ارباب العمل والحكومة إضافة إلى استقطاعات العاملين.

  • في اطار تأمين انتفاع العراقيين من الثروة النفطية وعائداتها يمكن التوجه نحو ترجمة ذلك عمليا من خلال توسيع نطاق الضمانات الاجتماعية لتشمل:

1- العمل على منح راتب ضمان اجتماعي يمثل الحد الأدنى لكل مواطن عراقي بلغ سن التقاعد الرسمي من غير الموظفين والعاملين في مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية.

2- تبني مطلب صرف راتب شهري لكل طفل عراقي الى ان يبلغ السادسة عشرة من العمر، وان لا يتجاوز ثلاثة في كل عائلة ذات دخل محدود.

  • الإقدام على مجموعة إجراءات اقتصادية ومالية لإعادة النظر في مزاد وتحويل العملة، بهدف الحد من التهريب وغسل الأموال عبر توفير مستندات تجارية حقيقية ومواصلة حماية سعر صرف الدينار العراقي، وتقديم القروض المسيطر عليها.

توفير المتطلبات التمويلية لهذه المقترحات :

ان هذه القضايا الملحة تتطلب توفر إرادة سياسية وقناعة بأهميتها والتوجه الجاد لتوفير التخصيصات المالية المطلوبة، وهي لا تزيد عن عشرة مليارات دولار سنويا. يمكن توفير هذه الأموال من أكثر من مصدر، خصوصا إذا ما اتخذت الحكومة إجراءات حازمة لضبط الجباية في المنافذ الحدودية ومكافحة الفساد وسوء الإدارة على صعيدي السياسة الضريبية والكمارك.

في الظرف الحالي تتوفر موارد مالية إضافية، جراء زيادة أسعار النفط التي تقدر بـ  10 – 12 مليار دولار لسنة 2019، حيث قدرت الموازنة السعر المعتمد لبيع برميل النفط الخام بـ 56 دولار في حين يتراوح السعر الحالي للنفط العراقي بين 63- 67 دولار للبرميل,

أضافة إلى ذلك تفيد البيانات المتوفرة عن المصروف الفعلي للموازات الحكومية للسنوات 2006-2017، بانه لم يتجاوز في أحسن الحالات الثمانين في المائة من التخصيصات، وفي الغالب كانت النسبة اقل من 75 في المائة من التخصيصات.  

اعلاه بعض الاتجاهات الاساسية التي نراها ضرورية وملحة، ويمكن ان تغنى بالكثير من التفاصيل الاخرى، لتحقيق انعطافة جدية في مسيرة البلد السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بل ومقدمات ضرورية لانطلاق عملية الاصلاح الشامل المنشود. 

 

اللجنة المركزية*

للحزب الشيوعي العراقي

٢-٧-٢٠١٩