الموضوعات التالية مقتطفات من حوار مطول أجرته مجلة "جاكوبين" مع الفيلسوفة الماركسية نانسي فريزر ونشر في موقع المجلة الألماني في 10 آب 2022.

من هي نانسي فريزر؟

ولدت الفيلسوفة الأمريكيّة نانسي فريزر في 20 أيار 1947 بمدينة البالتيمور من ولاية ميريلاند في الولايات المتحدة. وتعدّ من أهم فلاسفة الجيل الثالث لمدرسة فرانكفورت النقدية. حصّلت على شهادة الماجستير والدكتوراه في الفلسفة من جامعة نيويورك. ودرّست في جامعات عدّة مثل جامعة جورجيا وجامعة ستانفورد وجامعة نورث ويسترن. في 1995 إلتحقت بالكلّيّة الجديدة للأبحاث الاجتماعية في نيويورك، أستاذةً للفلسفة والعلوم السياسيّة، فحظيت بشهرة أهّلتها لتكون محل ترحاب في عديد من الجامعات الأوروبيّة، حيث تمت دعوتها كأستاذة زائرة في هولندا وفرنسا وألمانيا.

تصّر فريزر حتى يومنا هذا، على أن تحليل جوهر الرأسمالية هو المعيار المركزي للتحليل الذي يرينا واقعنا الاجتماعي والسياسي والاقتصادي. وقد منحها هذا مكانة خاصة في النظرية النقدية. ولها العديد من المؤلفات، بالإضافة إلى العديد من التحليلات المؤثرة في الفلسفة السياسية والنظرية النقدية والنسوية. وقد إنصب إهتمامها في الأونة الأخيرة على التشابكات بين "العرق" والطبقة والجنس.

المعيار المركزي

نشأت مدرسة فرانكفورت في عصر كانت فيه الماركسية تختزل في نقد الاقتصاد السياسي. لقد فهم هؤلاء المفكرون أنه من أجل التفكير في الثقافة وصناعة الثقافة، والطابع الاستبدادي للأسرة، وأشياء أخرى كثيرة، من الضروري تطوير الماركسية. ولكن النقد المبرر للشيوعية ومحاولة تضمينه البعد الثقافي تم تحريفه. وفي النهاية، ظهرت ليبرالية وثقافية أحادية الجانب. وتم استبدال الحتمية الاقتصادية بفكرة أن الهيكلة السياسية للمجتمع تحدد كل شيء. لقد جرى استبدال حتمية بأخرى. باختصار: كان لابد من نضال صعب وطويل في سبيل العودة إلى الكلية الاجتماعية والرأسمالية كمعيارمركزي للتحليل.

حداثة ام رأسمالية؟

كان يورغن هابرماس يعتقد أننا بحاجة إلى النظر عن كثب في المكاسب التحررية للحداثة من أجل الحفاظ عليها في سياق محاولة التغلب على الرأسمالية. وفي حال عدم تجاوز الرأسمالية، فهناك حاجة لفهم كيفية الحفاظ على هذه المكاسب التحررية داخل الرأسمالية. وكان يعتقد أن هناك شيئًا في التاريخ الأوروبي الحديث والمجتمع يستحق الحفاظ عليه، سواء كان ذلك الحرية الفردية أو العلم أو الديمقراطية أو أي شيء آخر. وأيضًا أن الرأسمالية قد شوهت وحرفت الإنجازات. ولهذا السبب بدأ التفكير في كيفية تحقيق الإمكانات التحررية للحداثة في مجتمع ما بعد الرأسمالية. وكان من المفيد القيام بذلك، شريطة تجنب المركزية الأوروبية والمزالق الأخرى التي لم تتم معالجتها حقًا في ذلك الوقت.

بعد ذلك كانت هناك عملية استبدال للمصطلحات. وأسقط الكثيرون نقد الرأسمالية وكيف أفسدت الرأسمالية الحداثة. وبدأوا يتحدثون حصرا عن الحداثة. وشكل ذلك جزءاً من إزاحة الاقتصاد السياسي عن الحداثة، مما يعني أن الحداثة تُفهم فقط على أنها مجموعة من المُثُل الثقافية. ومثل هذا مشكلة، اذ يجب أن تكون الرأسمالية معيارا مركزيا للنظرية الاجتماعية. وبالطبع هناك بعد ثقافي وبعد اقتصادي وبعد سياسي، يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار. لكن المعيار الذي ترتكز عليها كل هذه الأبعاد، والذي بدونه لا يمكن فهم أي منها، كان ولا يزال الرأسمالية.

العودة الى الرأسمالية

لقد اتخذت الرأسمالية الآن مظهرًا مدمرًا للغاية، ممارسات أكلة لحوم البشر وليبرالية جديدة. ومن المفارقات أن هذا أدى إلى إزاحة الديمقراطية الاجتماعية. في حينها اعتقد اليسار الجديد أنه يقوم بتجذير الديمقراطية الاجتماعية. في النهاية حدث شيء آخر. ولا يتحمل هذا اليسار، المسؤولية الكاملة لما حدث، لكن فهمه للحقائق التاريخية كانت تعتريه بقع داكنة.

كانت فكرة الاقتصاد المتدفق الى الأسفل  Trickle Down Economics، والتي جاءت مع التحول الليبرالي الجديد، هي الأيديولوجية المهيمنة لعقود، والتي تقول إذا كان الأثرياء يعملون بشكل جيد، فعندئذٍ نستفيد جميعًا. وان الحكومات بطيئة للغاية في إحداث تغيير اجتماعي، لذلك يجب علينا جميعًا تعظيم رأس مالنا البشري وتحسينه لتحقيق الازدهار. كان هذا هو الحس السليم السائد في المجتمع، لكنه تآكل، بحيث هناك بالكاد من يصدق ذلك الآن. لقد ساهمت الأزمة المالية لعام 2008 وحركة "احتلوا وول ستريت" في خلق هذا التحول. وأصبح تفكير اليسار أكثر حرية اليوم.

هناك موجة جديدة من المواقف السياسية الجذرية والاحتجاجات، وتصاعد في مناهضة العنصرية، ونهضة في النقابات، حتى في الولايات المتحدة، حيث لم يتوقع أحد ذلك. ان الاهتمام بنقد الرأسمالية هائل اليوم. والكثيرون تعبوا من التعددية الثقافية وكل شيء هوياتي. لذلك هناك قناعة بأن التغيير قد حدث. في إطار النظرية النقدية ربما يحدث الامر ببطء غير مرغوب فيه، لكن لا يزال هناك شعور بأن الماركسية والنسوية الماركسية والماركسية البيئية تشهد انتعاشًا.

مفهوم موسع للرأسمالية

ينبغي تبني رؤية أوسع للرأسمالية، رؤية لا تُفهم الرأسمالية على أساسها كنظام اقتصادي فقط، بل كنظام اجتماعي يكون للاقتصاد فيه علاقة متناقضة مع جوانب الحياة الاجتماعية الأخرى، والتي تشكل أساسه (أعمال الرعاية، ونزع ملكية ضحايا العنصرية، الثروة والسلع العامة وسلطة الدولة والطبيعة). وبالتالي تصبح جميع أشكال العمل مرئية، والتي تحافظ على ديمومة النظام.

ان نسبة صغيرة فقط من هؤلاء العمال ينطبق عليهم التعريف الماركسي التقليدي للطبقة العاملة. معظمهم من العمال، الذين لا يتم استغلالهم في المصانع، الذين يعملون على خطوط الإنتاج. أن هذا النظام يعتمد، على الأقل، على شكلين آخرين من العمل. أنا أسميهم العمل المصادر، أي اعمال السخرة، ومصادرة موارد الشعوب الاصلية والأفريقية والعمل المنزلي. هذا العمل ضروري من ناحيتين، الأولى كي يتمكن الناس من العيش والتكاثر، والثانية كي يتراكم رأس المال ويعاد إنتاجه. وفيما يتعلق بمسألة النظرية الطبقية، فان أي تعريف غير اختزالي للطبقة العاملة يجب أن يشمل جميع أنواع العمل الثلاثة، العمل المستغِل والعمل المصادر والعمل المنزلي.

ويتطلب الفهم الموسع للرأسمالية أيضًا فهما موسعا للطبقة العاملة. ومن الضروري الاهتمام بكيفية تنظيم حركة اشتراكية أو مناهضة للرأسمالية على أساس هذه الاعتبارات. وعلى الرغم من وجود تلميحات فعلية بهذا الاتجاه، إلا أنه لم يتم متابعتها أو تنفيذها بجدية.

مشروع اليسار المشترك

الطبقة الرأسمالية شيء والطبقة السياسية الحاكمة شيء آخر. من الواضح أن جميع السياسيين البارزين تقريبًا يمثلون بشكل أو بآخر مصالح رأس المال. أما بالنسبة للصراع الطبقي، فإنه حتى وقت قريب كان يخاض يشكل رئيسي من جانب واحد، أي من قبل رأس المال. لقد تم تدمير النقابات في العديد من البلدان، وتم نقل مواقع الإنتاج إلى الخارج، وتم خزن الثروات في الملاذات الضريبية، وتحولت الطبيعة إلى بالوعة.  لقد كان رأس المال عمليا مطلق اليد.

علينا أن نرى كيف سيبدو الصراع الطبقي الآن. كثير من الناس يشككون في الأحزاب الثورية. والكثير من الرؤى والمهام تتحول إلى مستوى الحركات الاجتماعية، ولكن هناك أيضًا تحالفات انتخابية واعدة، مثل تحالف اليسار الفرنسي المثير للإعجاب. وفي الوقت نفسه، تزدهر الشعبوية اليمينية وتلجأ أحيانًا إلى خطاب زائف مناهض للرأسمالية. ان هناك فراع سياسي، يجب على اليسار ان يشغله. ولهذا الغرض يحتاج اليسار إلى رؤية وفهم واسعين جدا للعمل والطبقة العاملة. يجب أن يكون هذا اليسار مفتوحًا لجميع أشكال الجذرية النشطة، لكن يجب أيضًا أن يوفر إطارًا لتوحيدها في مشروع مشترك.

 تشابك اشكال التميّيز

من المفيد محاولة ربط جوانب من نظريات الرأسمالية العرقية وإعادة الإنتاج الاجتماعي أو النسوية الماركسية والمفاهيم التقليدية للمجتمع الطبقي والصراعات الطبقية، بالإضافة الى الأهمية المتزايدة التي اكتسبتها أسئلة البيئة في السنوات الأخيرة.

التقاطع(التشابك)  intersection يختلف عن ما تقدم. التقاطع يحدد المشكلة ويوضح الحاجة إلى مزيد من التفكير الشامل والممارسة السياسية. كان التقاطع في البداية منظورًا لتحليل الوضع المحدد للمرأة السوداء وتصور أشكال الاضطهاد المتشابكة التي تعرضت لها. تدريجيًا، تطورت التقاطعية إلى نظرية أوسع تحاول إظهار الروابط بين النظام الأبوي والرأسمالية والعنصرية. وهذا يمثل مشكلة لأن الرأسمالية تعمل على مستوى تحليلي مختلف مرتبط بجوهر طبيعتها. ولهذا هناك حاجة إلى فهم موسع للرأسمالية وأشكال العمل الثلاثة، العمل المستغِل والعمل المصادر والعمل المنزلي.

*- نشرت لأول مرة في العدد 158 من مجلة الشرارة النجفية

عرض مقالات: