نشر هذا النص قبيل الذكرى المئوية لثورة نوفمبر الألمانية 1918، والنص يتيح فرصة لإعادة اكتشاف الميول الجذرية في الحركة العمالية الألمانية، والحزب الشيوعي في ألمانيا. انطلاقا من ضرورة تناول الشخصيات المؤثرة التي طواها النسيان، خصوصا إذا كانت معرفة سيرهم ومواقفهم يمكن أن تساعد في الإجابة على الأسئلة الاستراتيجية الحالية التي تواجه قوى اليسار. لقد كان إرنست ماير (1887 – 1930)، الذي تزعم الحزب الشيوعي في المانيا في فترات تاريخية حرجة واحدا من هؤلاء.

كان ماير واحدا من الماركسيين الثوريين، الذين لعبوا دورا مؤثرا في السنوات الأولى من تاريخ الحزب الشيوعي في المانيا. لقد رأوا أنفسهم لينينيين ألمان وفقًا لتقاليد روزا لوكسمبورغ وحاولوا الجمع بين النضالات لإصلاح الرأسمالية بهدف التغلب عليها بطريقة ثورية. لقد دافعوا عن سياسة الجبهة الموحدة تجاه الحزب الاشتراكي الديمقراطي والنقابات العمالية، ومن أجل مركزية ديمقراطية حقيقية في الحزب، ودرجة من الاستقلالية عن موسكو. لقد طال إرنست ماير النسيان أكثر من رفاقه الآخرين في هذا التيار الرئيسي غير المتجانس، مثل باول ليفي، وكلارا زتكين، وهاينريش براندلر، وأوغست ثالهايمر. لقد كان أحد اهم الفاعلين البارزين

قائد الحزب المنسي

انتمى ماير في عام 1908 إلى الحزب الديمقراطي الاجتماعي، وكان مسؤولا عن العل السري في عصبة سبارتاكوس خلال سنوات الحرب العالمية الأولى ولعب دورًا مهمًا في ثورة نوفمبر 1918. ونجا بصعوبة من مصير معلمته السياسية وصديقته روزا لوكسمبورغ، التي قتلت على يد جنود الفيلق اليميني الحر في 15 كانون الثاني 1919. ولعب في السنوات الأولى لجمهورية فايمار، دورا قياديا في الحزب، وترأس في سنوات 1921 – 1924 كتلة الحزب البرلمانية. وتراس الحزب في سنوات 1921 -1922، واستطاع تنفيذ أفكار روزا لوكسمبورغ في سياسة واقعية ثورية. وتجسد هذا في استراتيجية الجبهة المتحدة التي كان له دور فعال في تطويرها. وفي سنوات قيادته للحزب، قدم مثالاً واضحًا على المستوى العالي للديمقراطية في الحزب الشيوعي الفتي. وفي "أكتوبر الألماني" عام 1923، رفض الاستعدادات العسكرية البحتة لانتفاضة خليفته هاينريش براندلر. وجادل بأن الانتفاضة يجب أن تأتي من تكثيف النضالات الاجتماعية. وكان من أوائل وأشد منتقدي قرار التخلي عن محاولة الثورة دون قتال تقريبًا. وفي هذه الاثناء تم تهميشه، وفي عام 1927 أصبح مرة أخرى الزعيم الحقيقي للحزب. وقاوم بناء تنظيم الحزب على أساس أفكار موسكو ودافع بقوة، دون نجاح، عن إرث لوكسمبورغ والديمقراطية الحزبية، وسياسة الجبهة الموحدة (جبهة تضم الشيوعيين والديمقراطيين الاجتماعيين والقوى المناهضة للنازية والفاشية ظهر منذ العشرينات، واتخذ اشكالا متعددة –المترجم). لقد استنزفته الصراعات داخل الحزب، واليأس من البيروقراطية والسلطوية الذي ساد في الحركة الشيوعية لعالمية، وتوفي بمرض السل في عام 1930 عن عمر يناهز 42 عامًا.

بدرجات متفاوتة، كان ماير قادرًا على ترك بصمته في مراحل مختلفة من الحركة الشيوعية. كان هذا صحيحًا بشكل خاص، عندما كان على راس الحزب، في الفترة بين مؤتمري الحزب في مدينتي ينا ولايبزيغ (آب 1921 إلى كانون الثاني 1923). وكان أهم إنجازاته كزعيم للحزب هو تثبيت اوضاع الحزب الذي كان لا يزال حزبا فتيا. وخصوصا توحيد الجناح اليساري في الحزب الديمقراطي الاجتماعي المستقل، والحزب الشيوعي في المانيا، حيث كان الحزب يعيش ازمة صعبة، بعد النتيجة الكارثية لـ "حركة اذار" 1921، حيث اندلعت ثورة العمال المسلحة التي بدأها الحزب الشيوعي في المانيا، وحزب العمال الشيوعي الألماني (انشقاق من الحزب الأم-المترجم) وقوى يسارية متطرفة في المنطقة الصناعية حول مدن هاله وليونا وميرسبورغ وفي ريف مانسفيلد. وبقيادة ماير، تم تجنب الانقسامات الكبيرة، وتوقفت خسارة الأعضاء الفادحة، وتم كسب 44 ألف عضو جديد. وتصاعد نفوذ الشيوعيين بوضوح في النقابات العمالية، وفي الانتخابات البرلمانية. وبقيادته كان الحزب قادرًا على تطوير وترسيخ هويته كحزب جماهيري، واستمر هذا الحال حتى نهاية جمهورية فايمار. وقد ساهم في تحقيق هذا التوحيد على مستويين، من ناحية باعتماده نهج قيادي متوازن وجامع، مكّن الحزب غير المتجانس من تطوير ممارسة سياسية مشتركة. ومن ناحية أخرى، من خلال تبني سياسة الجبهة الموحدة، نجح في تغيير علاقات الحزب الشيوعي الألماني مع الأغلبية غير الشيوعية من القوى العاملة.

في عام 1927، عاد ماير ثانية، لبضعة اشهر لقيادة الحزب الى جانب منافسه إرنست تيلمان ، وكان له مرة أخرى تأثير جوهري في صنع سياسته. وخلال هذه الفترة نما الحزب واتسع نفوذه الجماهيري وعزز كادره من خلال العمل الفكري والتثقيفي المكثف، ولاسيما في مجال تاريخ الحزب الذي كان مهمًا جدًا بالنسبة له. قدم ماير مساهمته في التطور الإيجابي بنفس الطريقة كما في سنوات 1921/22: أسلوب قيادته عزز العمل القيادي العابر للتيارات في الحزب، ونجح مرة أخرى في دفع سياسته الخاصة بالجبهة الموحدة الى امام.

رائد الجبهة الموحدة

ان مواصلة تطوير وتنفيذ استراتيجية الجبهة المتحدة التي تبنها ( تبناها )  المؤتمر الثالث للأممية الشيوعية الكومنترن عام 1921 هي مساهمة ماير الأصلية في النظرية والممارسة الشيوعية. الجبهة المتحدة هي مفهوم السياسة الواقعية الثورية، أي محاولة اتباع سياسة ثورية جماهيرية في بيئة غير ثورية. إذا كان الشرط الأساسي الذي لا غنى عنه للثورة هو كسب الحزب الشيوعي الأغلبية البروليتارية (وفي هذا كان ماير بالتأكيد تلميذًا لروزا لوكسمبورغ) ، لكن هذه الأغلبية لا تزال تتبع الديمقراطية الاجتماعية ، كان على الحزب الشيوعي الألماني أن يبحث عن طرق لفصلهم عن الحزب الديمقراطي الاجتماعي. وجد ماير أن استراتيجية الجبهة الموحدة الوسيلة الأكثر فعالية للقيام بذلك. وفي هذه الحالة، لم يعد المعيار الحاسم هو الطبيعة الجذرية للمطلب في حد ذاته، ولكن السؤال عما إذا كان يمكن أن يؤدي إلى نضالات غير برلمانية واسعة النطاق للطبقة العاملة بأكملها وتطوير ديناميكية جذرية تتجاوز الأفق البرلماني. وفي هذا السياق لم يكن النضال من أجل تحسينات ملموسة واحتمال حدوث تحولات ثورية في المجتمع يمثل حالة تضاد، بل وحدة داخلية. واستلزم هذا النهج ا تقديم مقترحات إلى الحزب الديمقراطي الاجتماعي للقيام بنشاطات مشتركة. والشرط الأساسي هو احتفاظ الشيوعيين باستقلالهم التنظيمي وحرية انتقاد حلفائهم علنًا.

تبين مسألة "حكومة عمالية" محتملة، أي حكومة مشتركة من الديمقراطيين الاجتماعيين والشيوعيين ضعف ميل ماير نحو الدوغمائية أو الانتهازية. إن استراتيجية نضال الأحزاب العمالية المشترك من أجل المطالب الملموسة طرحت في نهاية المطاف بالضرورة مسألة ماهية الحكومة التي ستنفذها. رفض ماير استراتيجية طويلة الأمد للمشاركة في حكومة تهدف، عبر الإصلاحات، إلى التغلب تدريجيًا على الرأسمالية. و بدا هذا الأمر بالنسبة له، بمثابة اندماج في الرأسمالية، واعتماد سياسة التمثيل بالنيابة، وبالتالي التخلي عن المنظور الثوري تمامًا. وفي الوقت نفسه أهمل افتراض الكومنترن و جناحا في الحزب يدعي بأن الحكومة العمالية يجب أن تُفهم على أنها ليست سوى دكتاتورية البروليتاريا. ومن ناحية أخرى، عد الحكومة العمالية كعنصر مستقل في استراتيجية التحول الاشتراكي: على خلفية تصاعد الصراع الطبقي والسياسة الهجومية للبروليتاريا، يمكن أن يساهم في إضعاف البرجوازية. ولتحقيق ذلك، يجب ألا تستند الحكومة العمالية على البرلمان فقط، بل أولا وقبل كل شيء على تنظيمات الجبهة العمالية الموحدة (مجالس العمل، لجان المراقبة، المئات من البروليتاريين) وأن تكون مسؤولة أمامها. ويمكن تعزيز موقع الطبقة العاملة بشكل كبير، على سبيل المثال، من خلال فرض سيطرة الطبقة العاملة على الإنتاج، وفرض ضرائب أعلى على الأغنياء، ونزع سلاح المنظمات الفاشية وتسليح الطبقة العاملة. وبهذه الطريقة، يمكن أن تكون مشاركة شيوعية في الحكومة بمثابة نقطة انطلاق لديمقراطية المجلس والاشتراكية.

لم تعن   مفاهيم ماير في السياسة الواقعية في أي وقت خروجًا عن منظور الإطاحة الثورية بالرأسمالية. على العكس من ذلك، فهي تعني محاولة تحقيق هدف الثورة في ظل ظروف رأسمالية مستقرة نسبيًا.

وربما كان إرنست ماير الشخصية القيادية للحزب الذي أكد بشكل حاسم، خلال المراحل المختلفة من تطور الحزب، على الحاجة إلى الديمقراطية الداخلية وحرية المناقشة. لقد دعا باستمرار إلى حل الصراعات السياسية الداخلية، بواسطة النقاش الواسع والإقناع. وكانت قرارات الطرد، هي وسيلته الأخيرة، بعد مناقشات موضوعية مكثفة. كانت الأساليب الإدارية البيروقراطية لـ "حل" الخلافات الحزبية الداخلية لعنة بالنسبة له. وفي وقت مبكر من عام 1921/22 دعا إلى تكامل المواقف والاتجاهات المختلفة في حزب شيوعي مشترك، وبالتالي تعددي بحكم الأمر الواقع. وفي أواخر عشرينيات القرن المنصرم، أكسبته هذه الطريقة في التعامل مع المعارضة "اليمينية" في الحزب الشيوعي الألماني توصيف التشهير المعروف "توفيقي".

كان يتحرك دائما في مجال التوتر بين النقاش والديمقراطية من ناحية والعمل المركزي الفعال من ناحية أخرى. كان هذا، بالنسبة له، درسا مزدوجًا استخلصه من تطور الحزب الديمقراطي الاجتماعي: فالنضال ضد جهاز الحزب وأساليبه البيروقراطية خلال الحرب العالمية الأولى ، علمه الحاجة إلى ديمقراطية حزبية داخلية. وفي الوقت نفسه، توصل إلى استنتاج مفاده أن الممارسة المشتركة الملزمة مهمة، نتيجة خبرته مع الحزب الديمقراطي الاجتماعي، حزب لم يطور أي ممارسة تتوافق مع برنامجه الجذري، وبالتالي، وبالرغم من كل الخطاب الناقد للحرب، سقط في مراسي الإمبريالية.

لقد جعلته هذه التجارب من المتحمسين للمركزية الديمقراطية. وفقًا لفهم ماير، كانت مبادؤها  هي: حرية المناقشة الداخلية، والوحدة في النشاطات الخارجية وخضوع الأقلية للقرارات المشتركة المتخذة من الهيئات  المنتخبة  ديمقراطيًا. وأكد بقوة على العنصر الديمقراطي. لقد اختلف نهجه بشكل ملحوظ عن نموذج ما كان قائما في الواقع مركزية بيروقراطية بدون حرية نقاش حقيقية، والتي أصبحت لاحقا مهيمنة في الأحزاب الشيوعية، منذ الحقبة الستالينية. وطوال حياته، تمسك ماير بأفكاره بشأن الديموقراطية الحزبية.

على طريق تجاوز الرأسمالية

من أجل التغلب على الرأسمالية في القرن الحادي والعشرين، يجب على قوى اليسار أن تستعيد قاعدتها الجماهيرية. ولن تنجح في ذلك إلا إذا دافعت بمصداقية عن وحدة الاشتراكية والديمقراطية وتحرير الطبقة العاملة كشرط مسبق لتحرير البشرية من جميع أشكال الاستغلال والقمع. وفي سياق الاستناد الواعي على التقاليد التحررية للحركة العمالية الثورية، يعد إرنست ماير، من بين آخرين، خيارا  مناسبا ، للتعامل مع أرثه، الذي يمكن أن يعزز عمليات التعلم الاستراتيجي في اليسار اليوم.

عند الرجوع الى ما ير، فإن سياسته الخاصة بالجبهة الموحدة وموقفه تجاه الحكومات العمالية على وجه الخصوص تقدم مؤشرات مهمة تتمتع براهنيه، بشأن العلاقة بين قوى اليسار الجذري والديمقراطيين الاجتماعيين والنقابات العمالية، والمسائل المتعلقة بتحقيق هيمنة يسارية اليوم، وكذلك في المناقشات الجارية حول الهدف الاستراتيجي من مشاركة الحكومة اليسارية (في أوربا عموما، وألمانيا بشكل خاص – المترجم). عند التعامل مع ماير، يمكن توضيح عدم وجود تضاد بين النضال من أجل إصلاحات ملموسة، والمنظور الثوري للتغلب على الرأسمالية، ولكن يمكن أن يشكلا وحدة عضوية للاستراتيجيات المناهضة للرأسمالية. لم تكن الدوغمائية واستبداد الجهاز الحزبي ملازمة لمشروع الحزب الشيوعي منذ البداية. على العكس من ذلك: في العقد الأول من وجوده، كان الحزب الشيوعي في المانيا، حزبًا حيويًا وتعدديًا للغاية، كان مفتوحًا للنقاش، ويمتلك درجة عالية من ديمقراطية الحزب الداخلية. ويمكن أن تساعد دراسة تراث شخصيات مؤثرة مثل ماير على التعرف على إمكانية تطور بديل للحركة الشيوعية. إن الاتجاه السائد المدفون والمنسي لهؤلاء الرفاق داخل الحزب الشيوعي في ألمانيا، الذين عملوا وفق تقليد روزا لوكسمبورغ، يمثل منطلقا لكل أولئك الذين يريدون بثقة البناء على التقاليد الثورية والبحث عن خطوط مرجعية تاريخية لبناء حركة اشتراكية جماهيرية في القرن الحادي والعشرين.

*-نشرت لأول مرة في العدد 150 من مجلة الشرارة النجفية

**- فلوريان فلدا، مواليد 1977، هو مؤرخ ومعني بسياسة النقابات في معهد التحليل الاجتماعي التابع لمؤسسة روزا لوكسمبورغ. في ربيع 20118 كتابه "الثورة سياسة واقعية". إرنست ماير (1887-1930) – سيرة أحد زعماء الحزب الشيوعي في المانيا.

عرض مقالات: