في عام 1841، كانت الأمور تبدو جيدة لكارل ماركس، فهو في الثالثة والعشرين من عمره، يحمل لقب الدكتوراه بعد ان أنهى أطروحته في الفلسفة، ذائع الصيت كنجم فكري صاعد خصوصا في نطاق الأوساط الليبرالية الأكثر نفوذا في ألمانيا، وكان يمنّي نفسه بالحصول على منصب أكاديمي في احدى الجامعات بمساعدة صديقه برونو باور.

لم تستمر الأوضاع الجيدة، فبعد مضي عام واحد على اعتلاء الأمير الشاب فريدريك فيلهلم الرابع العرش الألماني، أخذت وعوده الإصلاحية بالتلاشي وتغيرت نظرته الإيجابية الى الفلسفة الهيغلية وأتباعها. وتجسد هذا العداء بتنصيب واحد من اشد خصوم هيغل، الفيلسوف المثالي فردريك شيلينغ، كي يقوم «بتحطيم بيضة التنين الهيغلية» ووضع الأساس لعملية تطهير داخل الجامعات الألمانية. وكانت واحدة من نتائج هذه الحملة تنحية برونو باور من منصبه الأكاديمي عام 1842، وبالتالي حرمان ماركس من أية فرصة أكاديمية.

لم يبق أمام ماركس سوى العمل في الصحافة، فقبل العمل محررا في الصحيفة الرينانية التي كان هدفها جذب «كل الشباب، الجدد، ذوي التفكير الحر ... والمواهب الثورية التي تمتلكها بروسيا وألمانيا». وعلينا ان ندرك أنها لم تكن مطبوعا شيوعيا، بل صحيفة خاصة لمواضيع «السياسة والتجارة والصناعة»، وكانت ممولة من قبل الطبقة الرأسمالية في مقاطعة الراين، التي تعتمد بشكل أساسي على صناعة المنسوجات الناهضة، مما جعلها من أكثر المقاطعات المتطورة اقتصاديا في كل أوروبا.

سيبرز أمامنا سؤال: لماذا يوظف الرأسماليون شخصا مثل ماركس؟ جواب ذلك باختصار، هو رغبتهم في تسخير طاقة الشباب الراديكالي للضغط من أجل الإصلاحات الاقتصادية التي من شأنها أن تعود بالنفع على مصالحهم الخاصة داخل النظام الملكي. ولهذا السبب أيضا قدموا دعما خجولا لإصلاحات أوسع، مثل حرية التعبير والمزيد من السلطة الديمقراطية للهيئات التشريعية للمقاطعات التي لا أسنان لها، ضد السلطة الملكية.

زواج المصلحة هذا هو الذي جعل أحد المحامين الداعمين لتوظيف ماركس يكتب: «على الرغم من أن الدكتور ماركس شيطان ثوري، إلا أنه من أكثر العقول التي أعرفها قدرة على اختراق الصفوف».

في احدى مقالاته حول حرية الصحافة، كتب ماركس مهاجما سياسة المحافظين: «عندما يتم التشكيك في حرية معينة، يتم التشكيك في الحرية بشكل عام. عندما يتم رفض شكل من أشكال الحرية، يتم رفض الحرية بشكل عام ... تظل الحرية هي الحرية سواء وجدت تعبيرها في حبر المطبعة أو في الملكية أو في الضمير أو في التجمع السياسي».

لاحظوا، ان هذا الدفاع الصريح عن الحريات المدنية في ظل ظروف النظام الملكي البروسي القمعي قد وضع ماركس ضمن الجناح اليساري للديمقراطيين الألمان. لكنه من ناحية أخرى، كان لا يزال يؤمن بحرية الملكية. وهذا يعني انه، الى غاية تلك اللحظة، لم يكن يجد غضاضة في الملكية الخاصة. كان يعتقد، كما فعل هيغل، أن عدم المساواة في الثروة أمر مفروغ منه، وأن مهمة الدولة هي التخفيف من حالة عدم المساواة، ولكن ليس القضاء عليها بطريقة أو بأخرى. وان مهمة الفيلسوف - أو الصحفي - تصحيح إخفاقات الدولة من خلال النقد، الأمر الذي يتطلب صحافة حرة.

ومع ذلك، كما كتب بعد بضع سنوات في مقدمة مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي، سرعان ما وجد نفسه: «في موقف محرج من الاضطرار إلى مناقشة ما يعرف بالمصالح المادية. ان المناقشات التي جرت في مجلس مقاطعة الراين حول سرقة خشب الحطب وتجزئة ملكية الأرض ... أوضاع فلاحي منطقة الموزيل، وأخيراً المناقشات حول حرية التجارة ورسوم الحماية الجمركية، دفعتني في المقام الأول إلى تحويل انتباهي إلى دراسة القضايا الاقتصادية».

توصل ماركس، بعد أن سخر من جهله المبكر بالواقع الاقتصادي الذي يعيشه الجزء الأكبر من السكان، الى بضعة أمور أساسية: بدأ في فهم قوة الثروة في المجتمع؛ أخذ يطور من حالة تعاطفه مع الفقراء والمضطهدين؛ بدأ في فهم أن المواقف السياسية للحكام ترتبط بمصالح طبقتهم الاقتصادية، وبالتالي هناك أساس طبقي لكل حجة يطرحها أصحاب الثروات.

والاهم أنه رأى، لأول مرة، أن دوره لا يقتصر فقط على المشاركة في النقاشات الآيديولوجية، بل عليه اختيار موقعه في معركة ملموسة بين الطبقات. وهذا يعني بداية تحزبه للدفاع عن الفقراء والمضطهدين. بل إن مفهومه عن «الحق الطبيعي للفقراء في جميع البلدان» أخذ يثير التساؤلات حول شرعية الملكية الخاصة نفسها!

لقد أصبح واحدا من أوائل المثقفين الراديكاليين، بين معاصريه، الذين أدركوا الحاجة إلى ربط النقد السياسي بقاعدة جماهيرية ملموسة بين السكان.

مع ذلك، وكما يلاحظ الفيلسوف الفرنسي مايكل لوي بحق في كتابه نظرية الثورة في شباب ماركس: «يرى ماركس في فقر الفلاحين جانبه السلبي فقط: محنتهم واحتياجاتهم ومعاناتهم. ويمكن تفسير هذا الموقف من خلال بداياته الهيغلية (الروح النشطة مقابل المادة الخامدة)، ولكن يجب أيضا التأكيد على أن الهدف الفعلي لاهتمام ماركس في مقالات الصحيفة الرينانية هو فقر الفلاحين، الذي كان ولا يزال طوال القرن التاسع عشر، وهو قرن سلبي بشكل عام، وليس فقر العمال، الذي لم يظهر الجانب النشط منه بالفعل إلا في فرنسا وبريطانيا. وهذا هو السبب في خلو مقالات ماركس في الصحيفة من مفهوم البروليتاريا العالمية».

بعبارة أخرى، لا يزال ماركس يرى الفلسفة على أنها القوة المحركة للتاريخ (الروح النشطة)، حتى بعد ان أصبح مؤمنا بضرورة توظيف هذه الأفكار لصالح الفقراء (المادة الخامدة). وظل مؤمنا بفكرة أن المثقفين – حتى وإن تم طردهم من الجامعات، فأنهم كصحفيين ونقاد - سيغيرون العالم، من خلال قوة حججهم.

لم ير ماركس أي بديل لهذه الثنائية بين الجانبين السلبي والنشط للنضال السياسي لأنه، على الأقل في تلك المرحلة من التاريخ، لم يكن فلاحو راينلاند يحتجون للمطالبة بحقوقهم. لقد كانوا ببساطة ضحايا بحاجة إلى بطل. علاوة على ذلك، فان الطبقة العاملة في ألمانيا، حتى العمال في منطقة راينلاند المتطورة نسبيا، لم تظهر بعد جانبها النشط - أي قدرتها على المقاومة.

لنا ان تتخيل كيف كان العديد من ممولي الصحيفة يؤنبون أنفسهم على توظيف شيطان ثوري أصلا، على الرغم من أن موقف ماركس هذا كان بالنسبة للجماهير موقفا نخبويا.

لم تستمر الصحيفة بالصدور فقد أغلقتها الرقابة البروسية بحلول آذار عام 1843. ومرة أخرى، كان أمام ماركس خياران: إسكات قلمه، أو إيجاد مكان آخر يستطيع فيه التعبير عن رأيه. والخيار الأخير كان يعني المنفى. لهذا نجده يكتب إلى صديقه أرنولد روغه في كانون الثاني عام 1843: «لا يمكنني فعل أي شيء أكثر في ألمانيا».

انتقل ماركس إلى باريس، وهو حديث الزواج وعاطل عن العمل. وبمجرد وصوله إلى هناك، شرع في العمل على تسوية الحسابات مع هيغل وجذوره الهيغلية الشابة، وشكل شراكة مدى الحياة مع فريدريك أنجلز، وأصبح على دراية بأكثر حركات الطبقة العاملة راديكالية في العالم.

عرض مقالات: