ضمن السلسلة التي أطلقتها منذ أسابيع تحت عنوان: “التفكير في عالم جديد”، أجرت صحيفة الحزب الشيوعي الفرنسي “لومانيتيه” حواراً، في السادس من تموز/يوليو الجاري، مع الفيلسوف الفرنسي جاك بيديه.

وجاك بيديه هو واحد من الفلاسفة الماركسيين البارزين في فرنسا؛ عمل منذ سنة 1998 أستاذاً في قسم الفلسفة في جامعة باريس العاشرة، وأصبح منذ سنة 2003 أستاذاً فخرياً فيها. وكان قد أصدر مع رفيقه الفيلسوف جاك تكسييه، في سنة 1986، مجلة فصلية بعنوان: “ماركس الراهن”، استمرا في إدارتها سوياً حتى سنة 2006. كما أشرف في سنة 1995، بالتعاون مع جامعة باريس العاشرة، على تنظيم مؤتمر علمي بعنوان: “ماركس الدولي”، انعقد بصورة دورية حتى سنة 2006، وأتيحت لي فرصة المشاركة في واحد من هذه المؤتمرات. واشتّهر بيديه على الصعيد الدولي، إذ دعي بوصفه أستاذاً زائراً إلى نحو ثلاثين جامعة في أوروبا، وأميركا الجنوبية وأميركا الشمالية واليابان. ونسج في السنوات ألأخيرة علاقات مع قسم الفلسفة في جامعة فودان-شنغهاي، ومع جامعة بكين.

ومن مؤلفاته: “هم” و”نحن”، خيار بديل للشعبوية اليسارية (2018)؛ الليبرالية، الاشتراكية والشيوعية على الصعيد الكوني. إعادة تأسيس الماركسية (2011)؛ ماركسية أخرى لعالم آخر (مع جيرار دومينيل، 2007)؛ شرح وإعادة بناء رأس المال (2004)؛ جون رولز ونظرية العدالة (1995).

وقد صاغ محرر صحيفة “لومانتيه” سؤاله إلى جاك بيديه على النحو التالي: إن جائحة كورونا لم تسقط علينا من السماء، وإنما هي مؤشر “كارثة” كان من الممكن تلافيها منذ زمن، وكي يتم تجاوز كارثة يتوجب معرفة أسبابها، والماركسية ترجع “الكارثة” ليس إلى الإنسان بوصفه إنساناً، وإنما إلى ميكانيزمات اجتماعية محددة، إلى “الرأسمالية”، بيد أن أنصارها يردون علينا  بأن الرأسمالية هي “شيء رائع، على الرغم من جميع فظاعاتها، إذ هي وفرت لنا التلفاز، والهاتف الذكي، والطائرة والأدوية”. 

وجواباً عن السؤال، يلجأ بيديه إلى مصطلحات ثلاثة هي: طبقة، جندر، ومصطلح حديث هو ((colonialité))، ويقول: في الواقع ليست “الرأسمالية” هي التي حملت “التقدم” إلينا. فهذا التقدم لا يعود إلى معجزة “السوق”، وإنما إلى قدرة التنظيم والتعاون الهائلة التي تطورت بالارتباط معه، أكان ذلك داخل المؤسسة الإنتاجية، عبر ابتكار السيرورات الصناعية، أو خارجها، عبر الإدارة، والتعليم  والبحث العلمي... إلخ. وسيكون من العمى أن ننسب إلى “الرأسمالية” كل هذا النتاج المتراكم بفعل العقل الاجتماعي المشترك. فرأس المال ليس في حد ذاته سوى منطق القوى الاجتماعية التي سيطرت على السوق. وقد أظهر ماركس ذلك: فرأس المال لا يهدف سوى إلى الربح، وكل رأسمالي محكوم عليه ان يحقق ربحاً أكبر من المنافس، وإلا سيختفي. ويتوجب على الرأسمالية بالطبع أن تنتج السلع والخدمات، لكن هذه ليست وظيفتها.

إنها في حد ذاتها، وأكثر من أي وقت مضى، في ذروتها النيوليبرالية، عمياء في استخدامهما، وفي تأثيرها على البشر وعلى الطبيعة، إذ هي تدمر الطبيعة.

ويقدّر بيديه أن آليات السيطرة- الاستغلال، هي وحدها التي تدمر الطبيعة، الأمر الذي يجعل النضال من أجل التحرر الاجتماعي والنضال الإيكولوجي شيئاً واحداً. فكل تراجع يلحق بجشع رأس المال (مثلاً ان تفرض 35 ساعة عمل في الأسبوع حتى سن الستين) أو كل تراجع  يلحق  بالسلطة النخبوية (مثلاً أن يكون في وسع جميع الطلاب الالتحاق بالمدارس نفسها) هو انتصار بيئي على قوى تدميرية.

ويضيف أن الرأسمالية  تقيّد رغباتنا. فهي، من أجل تشغيل الآلة (العمياء) كي تحقق ربحاً، تخلق بصورة مستمرة سلعاً  جديدة من شأنها أن تزيد من حدة الرغبة في التباهي لدى الحصول عليها. ولكن ليست الرغبات هي التي يتوجب كبحها، وإنما يتوجب تحديد الاحتياجات الحقيقية والمستدامة بيئيًا. وهذا ممكن فقط  بفضل القوة الناشئة من الأسفل، تلك التي تتجسد في عامة الناس، لدى المحرومين من الامتيازات ومن مصالح الملكية الرأسمالية ومن تسميات النخبة. إن الصراع البيئي هو أولاً وقبل كل شيء صراع طبقي.

وبشأن مصطلح الجندر، يعتبر بيديه أن الأمر نفسه ينطبق على علاقات الجندر. فالنضالات النسوية، التي تحوّلت نحو المساواة المدنية والاقتصادية، والتي ترمي إلى الحط  من شأن السلطة الذكورية، السلطة الهرمية التي يحتل فيها الذكر درجة السلم الأولى، ومن الاستغلال الرأسمالي  في الوقت نفسه، هي في جوهرها نضالات إيكولوجية. فالنساء مدعوات ليكن حارسات الحياة، وحارسات أماكن الحياة في الوقت نفسه.

وبخصوص مصطلح (colonialité)، الذي يدل على مجموع علاقات السيطرة الاجتماعية الناجمة عن توسع الرأسمالية في الأطراف، والتي تشكّل العنصرية أحد نتاجاتها، يرى بيديه أن هذه الـ (colonialité) باتت تميّز النسق- العالم الحديث، وإمبرياليته التأسيسية. فالدول- الأمم لم توجد كما هي الآن سوى بفعل استملاك أراض من قبل جماعات محددة. ونظراً لعدم التساوي في قوة هذه الدول- الأمم، فهي مدفوعة إلى الغزو من قبل القوى التي تهيمن عليها، وهي تقوم بتدمير ما تنجح في الاستيلاء عليه، بحيث باتت حروب اليوم التي يشنها المجمع العسكري الصناعي هي الشكل المكتمل لهذه الـ (colonialité). إنها صيغة “إنتاج- تدمير من أجل الغزو”، وهي مرتبطة بشكل وثيق بالرأسمالية.

ويخلص بيديه إلى أن المعركة البيئية، التي ستكون غدنا السياسي، تدور بصورة كاملة ضمن هذه السلسلة الثلاثية الحلقات من النضالات من أجل التحرر: طبقة - جندر- (colonialité).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

موقع “حزب الشعب الفلسطيني” 18 تموز 2020