أسباب كثيرة دفعتني لكتابة هذه النص كقاري، فلست ناقدا متخصصا، وانتظر من خلال قراءة الروايات العراقية بالذات ان تقودني لتجارب واحداث لم اعاصرها، والرواية التي بصدد الحديث عنها ما ان تقرأ العنوان حتى يبرز في داخلك شعور انها ستكون رواية مليئة بالأحداث والتواريخ، كون العنوان يقود الى أكثر من تفسير تباعا مع فصول الرواية التي تغطي مرحلة شاسعة من تاريخ العراق، من ايام الاستعمار البريطاني حتى ليلة أول ظهور لصدام حسين على شاشة التلفزيون كرئيس جمهورية. “مواسم الانتظار” عمل روائي جديد للكاتب والصحفي يوسف ابو الفوز الصادرة عن دار المدى للثقافة والنشر عام 2022، من 510 صفحة من القطع المتوسط، تداخلت فيها الاحداث وبتكنيك يجعلنا في البدء نشعر اننا نقرأ كتابين متداخلين في كتاب واحد.

تحت عنوان “مواسم الانتظار”، يبحر بنا الروائي يوسف ابو الفوز من خلال مسيرة تاريخية بين كثبان رمال صحراء مدينة السماوة وبدوها ومدن العراق الأخرى وناسها، ومن هنا يبدأ السؤال، هل سيستطيع ابو الفوز الجمع بين مدينة السماوة والصحراء وحياتها القاسية واحداثها التاريخية وبين مختلف مدن العراق الاخرى متعددة الثقافات، لنرى بعد ذلك انه توغل في أحداث الرواية ليستمد من تاريخ مدينة السماوة خلال الازمنة المتتابعة، من خلال شهادة اهالي المدينة والمجايلين لهذه الاحداث من عاشوا المتغيرات السياسية والتقلبات الاجتماعية والدينية، حيث استطاع الكاتب ان يوظف مدينة السماوة، بفراتها، قراها، صحرائها، صعاليكها، مناضليها وشهدائها، ليبرز دورها على انها قضية ايضا وليست فقط كمدينة من خلال الصراعات والتقلبات التي كانت تدور فيها خلال تلك الفترات.

من الوهلة الاولى يخيل للقارئ انه وسط مسلسلا تاريخيا يعرض على شاشة التلفاز، لكن بعد قراءة مئات الصفحات، عمق الحوارات تنتشل القارئ من هذا الجو التصويري ليجد نفسه وسط سؤال يكبر تباعا للقراءة، كم من انسانا ثائر يحاول تغيير مجتمعه، يحيط به الخونة والمؤامرات وفي بعض الاحيان يتلقى طعنة في قلب الحقيقة من رفاق الدرب والمصير المشترك، ليجعلك الكاتب تدور في آلة سفر عبر الزمان والمكان والعالم، يأخذك من نقطة الى اخرى ومن مكان الى مكان اخر، وكأن العراق هو عالم متجدد في أي زمان.

يمنح ابو الفوز الرواية، من خلال الخلط بين الادب والسياسة والتاريخ، جرعات من المتعة والتراصف في الاحداث والشخوص لتكون متماسكة وربطها بالواقع، لذا ظهرت هذه الرواية متعددة الأزمنة والأمكنة لتمنح للقارئ متعة وتشويقا وترقبا، كما ان خطط الاغتيال والرغبة بالانتقام لا تخلوا منها الرواية في مختلف ازمنتها، يستلهم الكاتب وهو يمزج الاحداث في مدينة السماوة خلال الاحتلال البريطاني ليبين دور المتمردين «الصعاليك» في مقاومة الاحتلال ليسير بنا خلال الاحداث وفق وتيرة مفصلة في تاريخهم وارتباطهم في صحراء السماوة، بدءا بالشخصية المحورية «فواز آل تركي» مرورا برفاق دربه من مختلف مناطق العراق وانتهاء بمسيرتهم متعددة الروايات، لنرى ان الكاتب بذل جهدا كبيرا وملحوظا في نقل الاحداث باسلوب متماسك ومحايد للحدث التاريخي الذي يثير في النفس متعة الاصغاء والقراءة.

الاحداث التاريخية في الرواية ليس انعكاس للماضي او نقم من الواقع الحالي، بل هي واقع تناسته الاجيال او تناقلته خلال افاق مختلفة وتقدمه لنا بقراءة تاريخية هشة او مغايرة عن الحدث الحقيقي، فعلى الرغم من ان العديد من الكتب تناولت سيرة مدينة السماوة وتاريخها، الا انها لم تنقل لنا الحدث الداخلي من خلال شخص آخر يقف على الضفة الاخرى ينظر بعين ثالثة ولا يشترك معهم بالمفاهيم الثقافية والاجتماعية والدينية، هذه ميزة اخرى تحسب الى الرواية حيث استطاع الكاتب التعمق بالأحداث ليصطحب لنا الماضي بكل ما فيه من صراعات من خلال استحضار شخصية الكاتبة البريطانية “اجاثا كريستي”، وزيارتها المفترضة في الرواية لأثار الوركاء والسماوة، لتكون الرسائل الموجهة لها من صديقتها الإنكليزية، زوجة الضابط الإنكليزي،التي وقعت في اسر المتمردين الصعاليك، المتحدث باسم الغائب لمئات الاشخاص الذين لم نسمع عنهم، كما انه تعامل مع مساحة واسعة مليئة بالتفاصيل باسلوب متماسك مع السيطرة على الشخصيات والمصائر، يمكن القول انه التحدي الاول للكاتب وهو ينسج خيوط هذه الاحداث التي كتبت باسلوب ملحمي، كما حرص ايضا على ان تكتب الاحداث في الصحراء بالخط الأسود العريض (Bold) لتعطي للقارئ احساس الانتقال للاجواء وتكون استدلال داخل الرواية يمكن من خلالها العثور على هذه الصفحات وتمييزها.

تأكيدا لما سبق فان الكاتب خلق شخصيات الرواية باستقلالية واضحة على الرغم من ان بعضها تحمل توجه ايدلوجي مختلف ولها افكارها الخاصة ووجهات نظر مختلفة، الا انه اعطى لهذه الشخصيات حق الدفاع عن فكرها بحرية كاملة، لتأخذنا الرواية الى مرحلة جديدة من مراحل العراق في ضل حكم حزب البعث المتسلم للسلطة لندخل الى عالم الاغتيالات والاختطاف والترهيب، مشاهد المطاردات والملاحقات في الرواية لا تختلف عن اي مشهد سينمائي في صالات السينما كون الكاتب يعجلك تعيش اجواء الترقب والحذر والتخفي والعمل السري، تنتقل المطاردات بين ازقة العاصمة بغداد والمحافظات الاخرى لمناصري وأعضاء الاحزاب والقوى السياسية المعارضة للنظام القمعي، بشكل يجعلنا نتوقف عند قصة ومعاناة جيل الكاتب الذي عاش تلك الاحداث.

الرواية إذ تتناول تجربة تحالف الشيوعيين والبعثيين فيما سمي بالجبهة الوطنية، فأنها اختارت ان تسلط الضوء على أيام انفكاك وانهيار هذه الجبهة، وما سببته سياسة مطاردة الشيوعيين من حالة نشر الخوف بين الناس. واضح هنا ان الرواية معنية برصد تأثير القمع السياسي على الانسان العراقي، سواء المتحزب او المناصر، وكيف ان ترهيب الناس ونشر الخوف كان له تأثيرات مختلفة، فهناك من أحجم عن مواصلة العمل السياسي، بل والبعض خان، وان هناك من صمد وعاش متخفيا متحديا أجهزة الامن والقمع، معتمدا على مساعدة مختلف الناس، من هامشيين وبسطاء دفعهم كره الظلم وحب مساعدة المظلومين للمخاطرة بحياتهم، لكن الجميع هم ضحايا لسياسة شمولية، تريد تبعيث المجتمع العراقي بالقمع والاكراه. وبالرغم من استحضار شخصية قائد سياسي، اسطورة في الحفاظ على مبادئه والصمود تحت التعذيب حتى الموت، مثل سلام عادل، فان الرواية لم تطرح ابطالا سياسيين خارقين، بل حاولت تسليط الضوء على لحظات الضعف والتردد والانكسار وأيضا التحدي والمقاومة، ولم تلجأ لمحاكمة أحد، بل حتى انتقاد تجربة الجبهة الوطنية وأداء قيادة الحزب الشيوعي العراقي ايامها، ورد على لسان بعض الشخصيات وان كان جريئا لكن بشكل ساخر.

وإذ تحاول الرواية ان تكون سجل حافل للمجتمع العراقي وتجربته مع حزب البعث خصوصا في تعامله مع الشيوعيين العراقيين، فمن الصعوبة في مقال سريع الالمام بكل عوالمها، التي كتبت بشكل ملحمي، فتناولت العديد من الموضوعات وشبكة واسعة من الشخصيات، المتشابكة في علاقاتها، وقد تبدو متعبة للقارئ أحيانا، لكن متابعة الاحداث وتطورها تغفر للكاتب، الذي يطلعنا في صفحات على احداث تاريخية يقدمها بلغة الحكواتي، لكن في صفحات تالية ترتفع اللغة عنده لتقترب من روح الشعر، فالكاتب استخدم تقنيات سرد مختلفة، لأجل شد القارئ ومنحه متعة متابعة الاحداث وتفاصيلها التي اعتمد في سرد بعضها تقنية الاسترجاع (فلاش باك)، واحيان الاسترجاع المتداخل.

في (مواسم الانتظار) يدفعنا يوسف ابو الفوز وبذكاء للتفكير بالمواسم القادمة التي تحلم بها شخصيات روايته، حيث الشعور بالأمان في مجتمع العدالة الاجتماعية التي حلم بها، كل بطريقته: صعاليكه في الصحراء وشيوعييه في “قطار الموت” ومنقذهم سائق القطار البطل (عبد عباس المفرجي).

* عن ثقافية المدى البغدادية عدد يوم 24.10.2022

 

عرض مقالات: