يشكل الشعر الشعبي العراقي بكل أنواعه وبحوره العشرية معلما من معالم الثقافة الشعبية الأكثر انتشارا في العراق، ويعتبر الشعر الشعبي وسيلة لغوية عميقة التأثير واشارة واضحة المعالم في ايصال الصورة والغاية بشكل خال من التعقيد والتبطين اللغوي، ولم يكن الشعر الشعبي في العراق يوما ما الا الوسيلة الأساس التي يستعملها البسطاء والفقراء من الناس في بوحهم بأحاسيسهم وشكواهم وتعبيرا عن مكنونات ارواحهم وتعبيرا عن دقائق حياتهم وعملهم وقدرتهم في تصوير الحالات الانسانية بشكل مختزل ودقيق وواسع.
ولهذا تعكز المجتمع الشعبي في العراق على الكثير من قصائد وأبيات الشعر الشعبي ليصير أمثالا عامة يستعملها الناس في الاشارة الى قضية ما أو حدث أو تعبير عن مكنون نفسي.
وقد أبدع أهل العراق في هذا المجال بشكل متميز بين أقرانهم العرب، حيث لمع اسم العديد من الشعراء الذين كانت مدرستهم الحياة وشهاداتهم جلسات الفقراء وتجمعات الفلاحين في القرى، اضافة الى اشتراكهم في الحوادث لتجيش ارواحهم بالشعر قولا أو على شكل هوسات جمعية أو إشارة أو لفتة تشير الى قضية وتلمح الى أخرى.
ومما يشار اليه ان الشعر الشعبي لم يترك صغيرة أو كبيرة ولا شاردة أو واردة الا وعالجها، مما يؤكد ان معالجاته الأساسية تتداخل في كل تفاصيل الحياة البسيطة اليومية للفرد.
وتزخر القصائد الشعبية بمفردات لها دلالة المكان، وربما تشير القصيدة الى المكان أيضا، فللمكان أهمية في اللهجة وكذلك لبعض المفردات، ويبدو ان الشعر كان يتلازم مع الانسان منذ بدايات استعمال اللغة أو اللهجة على الأكثر، كما يبدو ان الشعر الشعبي كان الأكثر حظوة من بين صنوف الثقافة بالنظر الى سهولة حفظه وفهمه وسرعة انتقاله، وضرورة انتقاله مع المهوال من قرية الى قرية ومن مدينة الى مدينة.
ويزخر الأدب الشعبي العربي بالعديد من القصائد الشعبية التي يمكن ان تشمل العراق لتعالج كل مناحي الحياة وجميع أحاسيس الناس ومشاعرهم.
وعلى الرغم من الدراسات العديدة التي عالجت قضية الشعر الشعبي والشعراء الشعبيين، فقد بعدت عنا هذه الدراسات في المنافي بعد ان استطاع الطاغية ان يشتت شعب العراق، وأصبحنا نتعكز على الذاكرة وما تحمله الينا اوراق البريد، بعد ان اطبقت السلطة البائدة ليس على الشعراء الشعبيين فحسب، وليس على الشعر الشعبي عموما حينما شعرت انها لم تستطع تدجين وترويض الشعراء الشعبيين في العراق، بل انها اطبقت وبكلتا يديها على خناق الثقافة العراقية بمجملها محاولة قتلها بقطع الهواء عنها.
وتأتي الدراسة القيمة التي قام بها الشاعر عبدالكريم هداد والمعنونة «مدخل الى الشعر الشعبي العراقي» الصادر عام 2003 في السويد «الطبعة الأولى» قراءة عميقة في أسس الشعر الشعبي منذ أوائل القرن العشرين والأشكال الشعرية التي قيلت حينها من الموال الى الابوذية والموشح ـ العتابة وغيرها، وتطرق المؤلف الى الدور الريادي والمهم للحاج زاير الدويج الشاعر الشعبي العراقي الأشهر، من دون ان يشير الى تفاصيل هذا الدور أو ان يدخل في ثنايا الشرح ليقينه معرفة القارئ بالكثير عن هذا العمود الواضح من أعمدة الشعر الشعبي في العراق، ولذا أورد نبذة مختصرة من حياة هذا الرائد المهم في تاريخ الشعر الشعبي في العراق.
وتطرق المؤلف الى صنوف الشعر الشعبي في تلك الفترة معززا تلك النماذج بأشعار متنوعة مع أسماء الشعراء، وقد اسهب في تجسيد الصور الشعرية لكل صنف من أصناف الشعر التي عالجها المؤلف وعززها بقصائد منتقاة لشعراء مهمين في المسيرة الشعبية للشعر، ولم تزل نكهة قصائدهم تشنف أسماعنا ولم تزل الذاكرة العراقية على الرغم من محنتها تختزن لهم العديد من الصور الشعرية الجميلة، ومن بين أهم هذه الأصناف «الهوسات» لما لها من تأثير أخاذ على النفس والمجتمع الريفي، اضافة الى الدرامي وهو الصنف الأكثر حظوة في المعالجات الشعرية التي عالجها الكاتب علي الخاقاني أو بقية الذين كتبوا في هذا المجال.
ويقينا ان القصيدة الشعبية التجديدية لن تمر من دون ذكر رائدها الشاعر العراقي مظفر النواب الذي ترك بصماته الواضحة والعميقة عليها ليتبعه بعدها الشعراء الرواد أمثال عزيز السماوي وعلي عبدالحسين الشباني وطارق ياسين وعريان السيد خلف ومجيد جاسم الخيون وكاظم الركابي وغيرهم، كما تواصل الشعراء الشعبيين في المنافي على رغم محنتهم وغربتهم في ديمومة التجربة الشعرية أمثال رياض النعماني وجمعة الحلفي وكامل الركابي وهاشم العقابي وعزيز السماوي وأبوسرحان.
وتعرض الشاعر لصفحة التشويه والزيف الذي تعرضت له صفحة الشعر الشعبي باعتبارها الصفحة الأكثر سعة من صفحات الثقافة الشعبية في العراق، حين حاول الطاغية توظيف الشعر الشعبي لمصلحة الحرب والموت والدمار وتمجيد الخراب والدم والمساهمة في تخريب ذائقة الأجيال والمستقبل العراقي، فخرجت القصائد باهتة وخالية من الهم الانساني، وينتهي الكاتب مشيرا الى حجم الخراب والدمار الذي عم الحياة والشعر بشكل عام في العراق مع يقينه ان البناء العراقي باق لم يتهدم وان نتاج مؤسسات السلطة لا يكون حقا ممثلا للثقافة الانسانية في العراق التي تتعلق بالانسان والأرض حين ترحل عنها ثقافة الخراب والموت وتغسل ارضيتها من دنس افكار الطغاة والسلطات القمعية. المعالجة التي سجلها لنا الكاتب الشاعر عبدالكريم هداد جديرة بالانتباه لكونها أول دراسة تعالج هذا المنحى المهم من مناحي الثقافة العراقية، لا سيما ان الكاتب يعيش غربته ومحنته ويستعيد أنفاسه بعد ان كان الطاغية يطبق على خناقه بكلتا يديه. ولأن الشعر الشعبي مهم ومتداخل في تفاصيل الحياة اليومية للعراقي فهو حقا جزء مهم من تاريخ الشعب العراقي.
ويوزع البحث بين دراسة حول أهمية الشعر الشعبي العراقي، ومن ثم اشكال القصيدة الأولى متطرقا الى قصيدة التجديد ومن ثم قصيدة الرواد وقصيدة المنفى وقصيدة الحرب والتأليه. ويخلص الكاتب الى بقاء الشعر الشعبي العراقي نقيا يعود الى جذوره وينابيعه الأولى متخلصا من سطوة الخراب التي نشرها الطاغية محاولا ان يلطخ وجه الشعر فخرج الشعر متخلصا من أوساخ الكلمات التي حملها الطاغية معه ورحل عن ثقافة العراق وبقي الشعر الشعبي متألقا ونظيفا مثل ماء العراق.