الابوية في اللغة التداولية تكتسب شيوعا واسعا في الوسط الاجتماعي ، وتحظى باستجابات ايجابية لدى الشرائح كافة ، وهي من اسس البناء الاسري في المجتمعات الانسانية. وفي مجتمعاتنا العربية و الاسلامية لها مكانتها العليا في تنظيم العلاقات الاسرية و ضبط المنظومة الاخلاقية و طرائق السلوك .

والابوية نسبة الى الاب، كما ان الامية نسبة الى الام . ومنهما تتشكل وحدة بناء المجتمع . ولأسباب بيولوجية وتاريخية واجتماعية - لا يسعنا الوقت للحديث عنها هنا – اصبح الاب هو الرأس و الراعي و الموجًه ، وعليه تلقى المسؤولية الاولى في رعاية الاسرة وادارة شؤونها. الامر الذي اوجب على افراد الاسرة الخضوع والاحترام والاحتكام اليه في الامور الحياتية، وهذه المكانة تتأتى من جانبين: الاول هو الرابطة  الجسدية (رابطة الدم) بين الاب واولاده  و رابطة الزواج بين الاب (الزوج ) والام (الزوجة ). وتتحول هذه الروابط الى رابطة روحية ووجدانية تؤدي الى خلق الالفة والتعاون بين افراد الاسرة. الجانب الثاني هو تكفل الاب بتوفير متطلبات المعيشة الاساسية والثانوية من طعام و لباس و وسائل وحاجات ..الخ . من هنا كان الامتثال والخضوع والاحترام من الواجبات الاساسية الواجبة على افراد الاسرة جميعا. فالصلة هنا مادية روحية في العموم.

ولإحكام السلطة على المجتمع استعير هذا المصطلح (الأبوية) ليكون داعما ومكملا لسلطة الحاكم في دولته، (واطيعوا الله والرسول واولي الامر منكم.) فكان ميزة خاصة للسلطة الدينية في محاولتها للجمع بين السلطتين الدينية والدنيوية. في حين تنحسر او تنعدم هذه السلطة في النظم السياسية العالمية الشرقية والغربية حيث شهد العالم انحسار السلطة الروحية لصالح النظم الديمقراطية واللبرالية واليسارية وحتى اليمينية ذات الولاءات القومية والعنصرية.

ان الدعوة الى نظام (ابوي) في العصر الحديث قد يكتب لها القبول المحدود على المستوى الاجتماعي لاهتزاز منظومة الوعي وتعدد ضغوطات الحياة التي تدفع الفرد للاحتماء ب(أبيه) الحاكم او القائد او الزعيم القادر على ما لا يقدر عليه الاب الحقيقي، اذ الاب هنا أب شامل للجميع، للكبير والصغير للرجال والنساء او لمن يجد فيه منقذا له من الضياع والتعثر في سبل الحياة الدنيا. ليس هذا فحسب بل من يشفع له وينقذه في اليوم الآخر. هذه السلطة نشأت ونمت تحت تأثير الولاءات الدينية والمذهبية ذات الأثر الكبير على شرائح واسعة من ابناء المجتمع وبخاصة في الظروف العصيبة والكوارث. وقد برزت من جراء ذلك ظاهرة (التقليد) في بعض المذاهب، فكانت هذه السلطة تفوق اية سلطة اخرى لما لها من اثر روحي ويقين راسخ بقدراتها اللا محدودة في حل المعضلات.

ان هذا القبول المحدود بطروحات النظام الابوي لا ينسجم مع طبيعة المجتمعات المعاصرة التي لا ترضخ الا لسلطة القانون، ومع تطور الحياة و سيادة التكنولوجيا يصبح كل خطاب رهين بما يقدمه على ارض الواقع من انجازات ملموسة تساعد الانسان على الوصول لغاياته في حياة آمنة مستقرة بعيدا عن الاصطفافات  والولاءات الضيقة بعد ان بات الكوكب قرية صغيرة تربطها الرابطة الانسانية والمصالح المشتركة.. ولنا شواهد من العالم المتطور المتمدن، الذي حرر الفرد من الافكار والمقولات التي لم تجدِ له شيئا، فالأبوية فات أوانها وان كانت تصدر عن نوايا حسنة، لماذا؟ لان الابوية في الفضاء الاسري لم تبق كما في السابق بعد التحولات المتصاعدة في البنية الاجتماعية وتفجر لحظة الوعي لدى الابناء واختلاف المقاييس الاخلاقية. بمعنى ان احترام الآباء لا يعني الخضوع المطلق لهم وهذا لا يضعف من المنظومة الاخلاقية انما اخلاق اليوم هي ليست بالضرورة اخلاق الامس. وقد شخص ذلك بقول حكيم يدل على رجاحة العقل ينسب الى الامام علي عليه السلام: "علموا ابناءكم لزمان غير زمانكم".

وبما ان (الأبوية الاسرية) اليوم هي غيرها بالأمس، وأصبح الآب صديق ابنه وبنته، والام صديقة اولادها. فان ما لاحظناه من فعل الابناء والبنات في سوح التظاهر ومستويات وعيهم وقدرتهم على قيادة انفسهم والمجتمع. و تحدي الظروف الصعبة و مواجهة الموت بصدور عارية والاصرار على نيل مطالبهم، نعترف بان العلاقات الاجتماعية والاسرية تغيرت، وان جيلا جديدا لا ينصاع  الا لما يقتنع به . واعتقد ان هذا التمرد هو تمرد ايجابي اساسه الثقة بالنفس وتطور منسوب الوعي وعقلنة الحياة. وبناء عليه فان توظيف مفهوم الأبوية سياسيا لا يلائم روح وشكل العصر وغايته فرض الهيمنة المطلقة على الجيل الجديد و خنق رغبته في التغيير.

عرض مقالات: