هذا الكتاب
حمل الكتاب عنوانا مميزا, خطف منذ الوهلة الأولى انتباه القارئ نحو النص الموازي, (مدونات أرملة جندي مجهول), اصدار قصصي قصير جدا, صدر عن دار ميزوبوتاميا للطباعة و النشر و التوزيع, في بغداد 2014, و ضم بين طياته 93 نصا.

السباعي مجربا

القاص الناصري, علي السباعي, اسم علم في انطولوجيا القصة العراقية, ولاسيما القصة القصيرة, لما يتمتع به من اسلوب مميز في سرد حبكة النص القصصي, وجرأة اقتناص الثيمة الحكائية التي تشغل فضاءات كتاباته, مؤثرا ومتأثرا بالبيئة الثقافية التي واكب احداثياتها على مدى سنوات متقلبة الأحداث والطوارق.
و كغيره من أدباء زمانه الذين اتجهوا نحو التجريب في القصة القصيرة جدا في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي, حذا السباعي إلى ركوب موجة السرد الأصعب – كما يطلق عليه النقاد- , مطلقا العنان لقريحته النثرية لتحاكي مرارة الواقع, ومجريات الزمان, بأسلوب أدبي, راصدا تارة, وساخرا تارة أخرى, ومحلقا في خيال السرد أحيانا.
وقد جاءت ثمرة بوح التسعينات, وعبق الألفية الثالثة, هذه المدونات التي رصدتها امرأة جندي مجهول كما يحمل عنوانها, والذي بدوره يدفع العديد من الانتقادات الأدبية التي كان من المفترض أن نشير بها للنص لولا براعته برمي الكرة في ملعب السارد ( امرأة الجندي المجهول), بما رصدت في مدوناتها الأربع ( مدونة الحرب – الحصار – الحب – التيه), كما قسمها السباعي في العناوين الثانوية.

اشكاليات القصة القصيرة جدا

لم تقف القصة القصيرة جدا – عالميا أو عربيا – على شكل محدد أو نمط كتابي واحد, أو حجم مقيد بعدد الكلمات سوى ما تفرضه المفردة " جدا " من اختزال الكثير بالقليل, متكأة على أهم خواصها الفنية ( التكثيف), وقد جاء في القص العالمي تعددا في أشكال السرد القصصي القصير جدا – كما ورد في كتاب مقاربات نقدية في اشكاليات القصة القصيرة جدا, مفصلا -, ومن تلك الأشكال (Mini saga) , وله ما يقابله عربيا ما أطلقنا عليه (الشكل القصصي المكثف جدا), وهو ذلك الشكل الممتد من 6 كلمات إلى بضعة أسطر, وهذا الشكل يعتمد بشكل كبير على المفارقة, ورمزية المفردة, إذ يختصر الجملة بالكلمة, والكلمة بالإشارة, كما ورد في نص:

"خرساء

شابة حلوة خرساء, تقدم لخطبتها شاب أخرس, رفضت الاقتران به, مخافة أن يبكي طفلهما وهما نائمان"
فهذا الشكل يتعامل مع النص بحذر شديد, متحاشيا ادراج أي مفردة لا تقتضي الحاجة إليها في سبك حبكة النص, فيكون بناء النص مرتكزا على الأقل الممكن من السرد, والذي لا يتجاوز بضعة أسطر معدودة, ويندرج تحت هذا الشكل ما يطلق عليه (مسمى قصة الـ(درابل) (Drabble) ), وهي القصص التي لا تتجاوز ال 100 كلمة, والتي تم تحديدها لاحقا ب 55 كلمة كحد أعلى كما تشترطه المسابقات المعنية في هذا الشكل من القص, كما ظهرت (القصة التويترية), وهي المحكومة بما تفرضه المساحة المخصصة للكتابة في موقع التواصل الاجتماعي (تويتر), والمحددة ب 140 كلمة, والتي تم تمديدها لاحقا لتصل إلى 280 كلمة, وتلك الأشكال يقابلها في الكتابة العربية ما يمكن وصفه بالقصة القصيرة جدا المتوسطة والتي تبلغ عدد ( 50 – 65) كلمة, وكذلك القصة المئوية, والتي تدور في رحى المئة كلمة زائدا أو ناقصا بقليل.
وقد خاضت تجربة مدونات السباعي تلك الأشكال الثلاثة, بما تفرضه حاجة النص من الاقتضاب أو التمديد, وذلك بتعدد أنماط الكتابة التي احتوتها بصفاتها المتعددة الحوارية منها والمباشرة والتقريرية السردية.

التبئير

يدور فلك النص السردي في مدونات امرأة جندي مجهول في عالم من المعايشات الحياتية, اليومية, على أصعدة أقسام المدونات الأربع (الحرب , الحصار, الحب, التيه), وهي تعكس رصد مشاهد الحياة في المجتمع العراقي على وجه التحديد في ظل المتغيرات التي يعيشها المواطن, والتي رصدها القاص من خلال البيئة التي عايشها عن قرب, واطلع على حيثياتها, فالتقطها الخيال السردي ليسطرها بصورة حكائية, تعتمد على المهارة الكتابية التي تتيح للكاتب أن يمارس طقوس تحويلها من أحداث عابرة إلى رواسخ نثرية ساخرة تارة, ومؤرشفة للواقع تارة أخرى.
فها نحن نجد الراوي يمثل الشخصية الرئيسة في النص لينقل ما يقابله من أحداث, كما في النص:
دهاء
آنذاك...
كنت في حرب الشمال انضباط آمر اللواء, داء لزيارتنا " عبدالسلام عارف"... طلب منه آمر لوائنا أن يوفر لنا دعما, كان البرد قارسا على جبل كورك, والجنود جياع, وملابسهم بالية... قاطعه رئيس الجمهورية, بحدة:
اسمع، الحرب دائرة بين ال "كاكا".. و.. ال " جا اشلون", أنت بعيد عنها.
ابق حيث أنت... ودعهم يتقاتلون.
أما في نص (حياء), فنجد أن الرّاوي يعرف ما تعرفه الشّخصيّة, فيقدم الشّخصيّة كما يراها مع الوصول إلى عمقها الدّاخليِّ, إذ يصور طبيعة فئة من المجتمع كما يراها من خلال موقف الجدة المبني على الفطرة, في زمن ما:
"
حياء
كانت جدتي رحمها الله عندما يظهر المذيع في التلفاز تتحجب بعبائتها".

التبئير المسبق

تعتمد العديد من نصوص السباعي على ضمير المتكلم إذ يطرح السارد معلوماته باعتباره شخصية شاهدة على الأحداث أو مشاركة في صنعها، وفي ذلك ينقلنا من الخيال السردي إلى النص الخبري, فينقل لنا خبرا بأسلوبه القصصي كشاهد حاضر, أو باعتبار الأنا هي الشخصية الرئيسة في النص, والأمثلة التي تناولتها المدونات على هذا الأنموذج عديدة, ومنها النص:
"
جنوبية
أتسكع تسكعا معرفيا في أحد شوارع الناصرية,
الناصرية التي هي أشد خرابا من واسط القديمة,
واجهتني شابة متعبة... تستجدي المارة بكفين مقطوعتين".

التجريب في قصص السباعي القصيرة جدا

إن مرحلة التجريب لأي أديب لا ينبغي القياس عليها, فكما أن القصص القصيرة جدا التي كتبت في مراحل متقدمة لظهور هذا اللون القصصي قد طالها الكثير من التجديد, وتباين الرؤى حولها, واختلاف النقاد في تقييمها, ودراستها, وتعد مرحلة انطلاق للخوض في معالم فن حداثوي يحاول الجميع أن يضع بصماته التي تعزز من مستقبل هذا الفن وتجذب المتلقي لتقبله وفق ما يرسمه الكاتب أو القاص أو الفنان من استحداث في هذا الشأن.
و من الملاحظ في هذه المجموعة التي بين أيدينا أن القاص هنا قد ارتكزت بعض النصوص التي كتبها على الصيغة الخبرية, وبم أن الخبر يتمثل في (حدث) وقع في (زمن) و(مكان) محددين، ونجم عنه (تأثيرات) قد تكون (سلبية) أو(إيجابية) بفعل فاعل، فالقاص غير معني بنقل الخبر كما يصوره الحدث حرفيا, فمبدأ صياغة الخبر يختلف عن مفهوم البناء القصصي, وللبناء القصصي مهاراته الفنية التي تنقل القارئ عبر التشويق إلى التأزيم ثم الانفراج من خلال لقطة ادهاشية أو مفارقة فنية, يسيرها القاص بمخيلته ليصنع لها الأحداث, فهو غير ملزم بنقل الحدث كما حصل تماما, ولديه من المساحة الواسعة لاستثمار الأساليب الأدبية غير التقليدية في صياغة النص, كما في أسلوب الاسترجاع, والاستدراك, والنهايات المفتوحة.
و لعل من أبرز ما افتقدناه في نصوص (المدونات) هو تلك العلاقة التي ينبغي تواجدها في فن القصة القصيرة جدا, من ثنائية المعنى والتي ينبغي أن تكون حاضرة بين ما يعرضه القاص, وما يستنتجه القارئ, والذي يجعل أفق التأويل مفتوحا لاستخراج مكنون الرمز, وشعرية اللغة, لكي تكون متعة القراءة حاضرة.
متابعتنا لما يسطره القاص علي السباعي من قصص قصيرة جدا أثبتت أن تلك التجربة في مجموعته البكر (مدونات أرملة جندي مجهول), قد آتت ثمارها من النضج , والإدراك لتطور هذا اللون القصصي, وأن مكنون الخيال لدى أديبنا مازال مشبعا بالابتكار والتجديد.
ذي قار 2020

عرض مقالات: