بوسع الحضور الغابر لأثريات الماضي أن يمدنا بالكثير من التصورات عن الزمن ورحلته السحيقة، فالأثريات ليست كتلاً مجردة أنها موغلة في الأزمان، كونها شواخص آثارية محتشدة بصور التاريخ، وحافلة بذخائر الماضي، التي تلوح كذكرى لأشياء غائبة، لا يجهر بها المكان بسهولة، فتحادثنا بمفردات الصمت، لقد أستقر بعضها عميقاً في باطن الأرض كحوادث دفينة ، هناك في الأديم المأهول بأصوات خفية، حيث لا ينتهك سكينتها سوى المعول الآثاري، الذي يتعقبها على الدوام، لتفجير قدراتها الصامتة، وتلمس وجود العبرة فيها، والإمساك بأحداثها التي تراجعت إلى الخلف بسبب تقدم الزمن مستعينا بذاكرة المكان الآثاري التي بمقدورها تجاوز استحكامات الأزمنة في الوجود المتخيل لمدينة ما.
أن لفظة سومرية المعنى مثل(اليشن) تحيلنا إلى ما يحدثه الانقلاب الغريب للاشياء والعناصر المؤثرة في الطبيعة فحينما نقف على مقربة من تلال (أبي فاخورة) فثمة سكون مدهش يحيطنا، فهذه التلال ربما كانت فيما مضى من أجمل حواضر الدنيا، ولكن كم من الوقت صمدت تلك القلاع والمشيدات ،الأبنية المحكمة، الحصون ، المآذن والقباب، الكتل الهندسية العملاقة، انها في قبضة المشهد الساكن الآن ، فتحت هذا الركام الآثاري وثقل صمته الطويل ،تقبع ثروة هائلة من المعالم العمرانية ،الغنية بالمعارف. أن صمت المعالم الآثارية أنما ينطوي على توتر ويمكن أن تكون له معان مختلفة، لا تستجيب للتخمينات العابرة غير أن المعرفة التأملية كفيلة باستكانة موحيات المكان واثرياته المحملة بالأصداء الماضية والتي من شأنها أن تنقلنا خلف ظلمات التاريخ الضاربة في القدم. أن المخطط التوضيحي لمدينة (المذار) يدلنا على مواقع مدن كثيرة هي اليوم سلسلة من التلال الآثارية والتي يطلق عليها (يشن البجة) وهو كل ما تبقى من مباني المدن المفقودة أما ترابها فيبدو مزيجاً من اللونين الذهبي والأحمر مخلوطاً بكسر الزجاج الملونة والتي نرى لمعانها يمتد متواصلاً من تل إلى أخر. ان التجوال بين أنقاض الماضي ومخلفاته الآثارية، يتيح لنا التوغل بعيداً في الزمن فعبر تداعيات الذاكرة المكانية ، يمكن لكنوز الرؤية أن تتفتح على مشاهدات تفوق قدرات العين لتتجلى خفايا الصروح المندثرة والعائدة إلى عصور مضت قبل أن تغوص في أحشاء الأرض وترتبط بأسرار العالم السفلي لتربض خلف مضامين الصمت، فبين المنظر الخرب والذكرى البعيدة يكون بإمكاننا البحث عن تعبيرية السكون التي توافينا ببرهات من الماضي، قادمة من أعماق العصور وماثلة في صلب المكان الآثاري، هذا السجل الحافل بالوثائق الغنية بالأحداث، لقد تركها الماضي محررة من كل يقين، وساكنة بين هدوء الأشياء وصفوها. أن منظر الأعمدة الجبارة والمقطوعة الرؤوس المبثوثة في خرائب مدينة (المذار) يسمح لتصوراتنا وفي لمحة من الوقت تخيل البرنامج العمراني الفخم لطقوس تشييد مدينة نهضت في ذات عصر غابر، وربما ظلت ولأجيال متعاقبة تتبوأ مركزاً جليلاً، ولكن لابد من تغير في مجرى الزمن ربما سيجعلها في عهود تاريخية لاحقة فاقدة لجدواها وعرضة لأحداث قاسية، تتجرع بسببها مرارت اليأس ثم تسقط في النسيان لتوثر الانحلال في حضن الطبيعة .وهكذا يكون بوسع الامتداد اللامرئي للحواس قدرة أثارة تداعيات المكان الآثارية بوصفه مكاناً قد خضع وعلى مر الازمنة للاستيطان البشري المتعاقب فغدا أقدم من أية ذاكرة وبؤرة لتلاقي الأزمنة التي تومض صورها في الأرجاء، لتوحي لنا بالطابع المفتوح للزمن وامتداده في مجاهل التاريخ، فتحت ركام الحقب الزمنية المتعاقبة، ترقد مراحل التأريخ الكبرى حيث تغيب في دورة من دورات الزمن ولم تترك وراءها سوى تلك الأمكنة الاثارية التي لا تكف عن النطق لكونها كانت مرتعا لتجارب الكثير من بين البشر. لقد تعاقب هنا بشر كثيرون ولم يتركوا لنا سوى الأماكن التي أمضوا حياتهم فيها، مكسوة بكساء سميك من غبار الأجيال.
يمكن لأثريات الماضي في ميسان أن تتجاوز صورتها الصامتة لتتحول خلف زجاج خزانات المتاحف الآثارية إلى حالة ناطقة، تسمح لنا بعبور مئات القرون وارتياد حقب التاريخ الآفلة فبرغم بعد الشقة الزمنية بين ما كانت عليه هذه الأثريات وما تعنيه اليوم إلا أن رؤى المكان تسمح بتكوين الأواصر بينهما، فصمت القطع الاثارية لا يعني بأية حال انقطاع في دلالاتها والتي يستظهرها الرجوع الزمني الناجم عن مقدرات الخيال حيث يزودنا في لمح خاطف بصورة الوجود المتخيل لأعاجيب المدن الغابرة الحافلة بخوارق الأحداث التي تلبي تطلعات الكائن البشري آنذاك. وما ينهض به من أعمال لا تنجزها سوى الكائنات الخارقة. أن لوحـا طينيا محفوظا في (صندوق الألواح النحاسي) في متحف ما يعيننا على تخيل (الهيئة البهية والسامية للحكيم العارف) - جلجامش– وهو (يعبر مياه الموت) مثلما يمدنا التذكر البصري المتولد عن مشاهدة المرئيات الاثارية بصور تعاند التصديق لشعائر الدفن الخاصة بـ(الدفائن الملكية المرتبطة بالتضحيات البشرية يوم كانت تجري كأية مراسيم دفن عادي حيث تقبر مع الملك حاشيته) إن تقليب صفحات السجل الاثاري ومطالعة سطوره المفتوحة يتيح لنا قراءة المشاهد المحفوظة بذاكرة أسلافنا
منذ عصور البشرية الأولى وهي تستيقظ من سبات قرون عديدة، مستجيبة لتخيلات متعاظمة تثيرها فينا عاديات الزمن، والتي نستدل عبرها عن المعنى الجديد لمشاهد قديمة.

********************

1. تعبير يطلق في جنوب العراق على أي تل آثاري قديم.
2. تل من التلال الآثارية الذي يقع في مدينة قلعة صالح جنوب محافظة ميسان العراقية.
3. عاصمة ملوك البحر في دولة ميسان وتقع تلالها الآثارية الآن غرب مدينة قلعة صالح آنفة الذكر.
4. احد التلال الآثارية العائدة لمدينة المذار.
5. كتاب "العراق القديم" لـ جورج روو الصادر عن وزارة الثقافة والاعلام العراقية.
6. نفس المصدر السابق.
7. نفس المصدر السابق.

عرض مقالات: