كنا قد كتبنا موضوعا يخص عملية العلاج بالدراما "السايكودراما والمعالجة بالتمثيل المسرحي" واليوم وفي هذه الفترة بالذات نحن بحاجة الى دراسة هذا الموضوع والعمل به وتدريسه في كليات ومعاهد الفنون الجميلة وكذلك اهمية الاخذ به من قبل المؤسسات التي تُعنى بعلاج المرضى المصابين بشتى الامراض النفسية.
ان هذا النوع من الدراما والتي تُعنى أساسا بعلاج الامراض والعقد النفسية بواسطة الدراما والذي اسس له مارينو في بداية العقد الثاني من القرن العشرين، يعتبر ونحن في القرن الحادي والعشرين وسيلة من الوسائل الناجعة لمعالجة بعض الامراض النفسية ان لم نقل جميعها بالتعاون مع الجهات الاخرى التي تعنى بمعالجة الامراض النفسية خاصة ونحن نعيش ظروفا ضاغطة تزداد فيها الامراض النفسية والتي غالبا ما تؤدي الى حالات الانتحار، وهذا ما نسمعه ونشاهده عبر الفضائيات وعبر وسائل الاعلام ووسائل التواصل الاجتماعي المختلفة.
وعلى هذا الاساس فان أهم ما نحتاج اليه هو الاخذ بهذا النوع من العلاج عن طريق الفعاليات الفنية والمسرحية بالذات والتي نبدأ بها داخل المدرسة والمرحلة الابتدائية بالدرجة الاساس كون الطفل الذي يلتحق بهذه المرحلة من الدراسة يغادر سنوات عاشها في بيئته تختلف عن بيئة المدرسة ولهذا يتطلب من واضعي المناهج الدراسية وادارات المدارس ان تعمل على ايجاد بيئة تقترب من البيئة التي غادرها وهذه البيئة البديلة تتمثل بالإضافة الى المناهج المقررة بالأنشطة اللا صفية كالفعاليات والانشطة الفنية وخاصة المسرحيات التي تتلاءم وهذه المرحلة العمرية للتلميذ.
ان اهمية هذه الانشطة الفنية والمسرحية بالذات والتي تتلاءم مع هذه المرحلة العمرية تكمن في عملية تسريب الكثير من الافكار المضرة والضاغطة وفي الوقت نفسه تعمل على تقبل البيئة الجديدة المتمثلة في المدرسة وذلك لما تحتويه هذه المسرحيات من مفاهيم وقيم تربوية وجمالية، بالإضافة الى منحها المشترك فيها امكانية الالقاء الجيد والجرأة في مواجهة المحيطين به والتعامل بتلقائية بعيدا عن الشد النفسي والقلق، ومحاولة جعله يمتلك شخصية متزنة خالية من العقد النفسية والصراعات الداخلية، هذا بالإضافة الى الشيء المهم الا وهو اقباله على الدروس المنهجية بدافعية واضحة تختلف عن دافعية زملائه الذين لا تهمهم هذه الانشطة والمشاركة فيها. وهذه الانشطة التي تقترب من اللعب المنظم لا بد وان يشرف عليها مختص كالمشرف والمدرب والمعلم والمعلمة التي لها خبرة في هذا المجال.
ومن خلال تجربتي في مجال عملي كمعلم في فترة السبعينات من القرن الماضي في "معهد الامل والصم والبكم" والذي كان تابعا لمحافظة بغداد/ الادارة المحلية. في وقتها كلفت بتدريب مجموعة كبيرة من التلاميذ على التمثيل والمسرحيات القصيرة لكوني خريج معهد الفنون الجميلة ولدي خبرة في هذا المجال، في البداية واجهت صعوبات كبيرة لكون هذه الشريحة من التلاميذ لديهم مشكلة في النطق والتي تكمن فيه فهو لا يستطيع ايصال المعلومة بشكل واضح ومفهوم، وعلى هذا الاساس اعتمدت على التمثيل الصامت "المايم" مع القاء بعض المفردات القليلة المنطوقة وغير المفهومة وفي حينها خرجت بنتيجة مهمة وهي ان اقبال عدد كبير من هؤلاء التلاميذ على المشاركة في هذه الانشطة المسرحية وتقديمها امام الجمهور هو بسبب حاجتهم الملحة للتعبير عما في دواخلهم بواسطة الحركة والاشارة مما يجعلهم في راحة نفسية لشعورهم بانهم يعتبرون من التلاميذ الاسوياء وبقية شرائح المجتمع، وهم يؤدون ادوارهم بشكل صادق وعضوي في الوقت نفسه، وهذه الحالة نفسها كانت بارزة وعفوية في "معهد الرجاء" وهذا هو اسمه في السبعينات من القرن الماضي الذي يضم التلاميذ المتخلفين عقليا والتابع للإدارة المحلية ايضا لكوني عملت معهم واستطعت ان اقدم العديد من المسرحيات الملائمة لهذه الشريحة من التلاميذ.
ولأهمية هذا الموضوع وخاصة في الظروف الحالية كما نوهنا عنه في البداية فقد التفت اليه وممن احسوا بأهميته من المعنيين في مجال الدراما بالذات، فقد برز بشكل واضح الدكتور جبار خماط استاذ المسرح في اكاديمية الفنون الجميلة/ بغداد الذي تحرك للعمل في هذا المجال خارج حدود الاكاديمية وهذه الحركة عُرفت من خلال توجهه الى السجون ومراكز الاعتقال وخاض عدة تجارب تجسدت في تقديمه عددا من العروض المسرحية على اساس المعالجة بالتمثيل المسرحي اي ما يطلق عليه بـ "السايكودراما او العلاج بالتمثيل المسرحي" وقد حقق نتائج ايجابية وهذه النتائج الايجابية برزت من خلال الممثلين الذين لعبوا عدة ادوار مسرحية تجسدت في الاتزان النفسي الذي شعروا به ومن خلال تعاملهم مع الآخر، بالإضافة الى اكتسابهم بعض المهارات والتجارب التي تفيدهم داخل وخارج المعتقل مضافا اليها اكتسابهم المعارف وتنمية الذوق الجمالي ايضا.
وهنا من الضروري تعميم هذه التجارب عن طريق المؤسسات التي تُعنى بالسجون لأهميتها القصوى كونها اثبتت وبشكل لا لبس فيه نجاحها في علاج العديد من الحالات المرضية والعقد النفسية.
ان اهمية هذا الموضوع والنتائج الايجابية التي ظهرت بعد تطبيقه لا يرتبط بمؤسسة معينة وخاصة بالتي تعنى بالسجون فقط، بل في الامكان الاستفادة منه في المؤسسات التي تعنى بالأمراض النفسية مثل "مشفى الرشاد" وبقية المؤسسات التي تُعنى بالطفولة وكذلك سجون الاحداث وحتى دور المسنين. ومن المؤكد ان هذا الاهتمام لا يتحقق بشكل قسري او من خلال الاوامر الفوقية بل بإيمان وقناعة المؤسسات المذكورة بأهمية هذا الجانب ودوره في علاج الكثير من الامراض النفسية خاصة. وبما ان المدارس المنتشرة في انحاء العراق كثيرة وتضم اعدادا كبيرة من التلاميذ والطلاب ومن كلا الجنسين، فان هذا النشاط ولأهميته يفرض تطبيقه وبشكل مدروس على مدار العام الدراسي وهذا يتطلب وجود ادارة مدرسية واثقة من نفسها وفي الوقت نفسه لديها الاستعداد التام لتبني مثل هذه الانشطة.
ان الثقة بالنفس من قبل ادارات المدارس على اساس انها تؤدي واجباتها على اكمل وجه والاستعداد لتبني مثل هذه الانشطة يتطلب التعزيز والاسناد من قبل وزارة التربية باعتباره واجبا ومهمة من المهام الرئيسة الملقاة على عاتق الوزارة لا يقل اهمية عن المنهج المقرر.
وتأسيساً على ما تقدم ولضرورة هذا النشاط التربوي والفني يحتم على الجهات المعنية في هذا المجال بالإضافة الى وزارة التربية مثل وزارة الداخلية كونها مسؤولة عن نزلاء السجون والمعتقلات وكذلك وزارة العمل والشؤون الاجتماعية كونها مسؤولة عن دور ايواء الايتام والدور المعنية بذوي الاحتياجات الخاصة وكذلك دور المسنين ان تعمل على تطبيق هذا النشاط المهم.
وبحكم الظرف الحالي الذي يعيشه البلد وانعكاساته على جميع شرائح المجتمع وتداعياته النفسية تتأتى اهمية تفعيل هذا الجانب وخاصة من قبل المؤسسات المذكورة في اعلاه.