القصة القصيرة تمر بمرحلة تحد واضحة مع الرواية. فبعد ازدهار فن القصة خلال العقود الماضية، بدا انها لم تعد في الواجهة كما يعتقد البعض مع ان آراء كثيرة تقول بان القصة القصيرة لم تفقد بريقها بعد ولم تهزها الرواية رغم ان كتاب القصة انفسهم ذهبوا الى الرواية وتركوا الساحة تئن من وطأة هذا الهجران. اقول بان الفن القصصي هو فن الاجيال والعقود والحقب كما الحال في الرواية فكلاهما يشكلان اهم الاجناس السردية ولنذهب بعيدا ونقول بان القصة القصيرة لها كتابها الكبار الذين يحرصون على ادامة بريقها وتوهجها.. وعندما تصدر مجموعة قصصية، تضاف لمسات ابداعية تطيل من عمر القصة القصيرة. مع ان كتاب القصة قد تحول بعضهم لكتابة الرواية لكنهم عادوا وكتبوا قصصا مهمة ومثيرة لكنهم لم يغادروا عالم الرواية البهي. في قصص كريم صبح "راس للإيجار" نكون امام جملة من التساؤلات التي وضعها القاص في كل نصوصه التي تجاوزت الاربعين. وهذه التساؤلات تأتي من كون القصص تطرح وثيقة انسانية مليئة بالمكابدات والخسارات وقلما تنتظر فرحا او سعادة فمعظم ايامها مسكونة بالفجائع والمآسي. جعل القاص بداية كتابه من حصة القصة القصيرة جدا واخذت حيزا مهما في المجموعة طرح خلالها الحرمان والمفاجأة والاختزال الذي جبلت عليه القصة القصيرة جدا منذ ان طرحتها لنا "ناتالي ساروت " وجعلته قانونا يحتذى به. اما القسم الثاني، فهو بمثابة قصص قصيرة بإطارها العام وتفاصيلها. وهو محور مهم اراد له القاص ان يكون علامة الكتاب الفارقة. فنرى الشخصية المأرومة والمهزومة والخاسرة كل شيء مقابل حصولها على فسحة الحرية التي تطمح بها ولكنها تصبح منالا بعيدا عنها تماما. واشتركت الشخوص بخيط واحد وهو ما يحسب للقاص الذي استطاع ان يغير المحاور والثيمات ولكنه ظل محتفظا بخيطة الرفيع الذي يربطها معا. ففي قصة "الزنبق يُقتل مرتين" ثمة جندي قناص اسمه ثامر يعيش داخل احدى الربايا دفاعا عن مدينة كركوك مستعدا لأي طارئ من الدواعش وهم يحاولون الدخول الى المدينة. يضجر ثامر القناص من الليالي التي يمكث وحيدا وهو يفكر في اهله البعيدين (في مدينة الناصرية) فيلهو بأسماء هاتفه يبحث لمجرد التسلية فيتوقف عند صديقته التي تبعد آلاف الكيلومترات (في امريكا ولاية واشنطن) فيتكلم معها بالصوت والصورة فتراه ويراها يخبرها عن معاناته وتخبره عن والدها الاستاذ الجامعي الجزائري الذي هرب الى امريكا في عام 1987 وتزوج وانجبها. ولكن الاب يضجر من العيش في امريكا بعد ان راودته الافكار المتطرفة ويسافر الى سوريا وينضم الى "الجهاديين" كما يقول هو. تجري هذه المحادثة المصورة والدواعش يقتحمون المكان ويقوم الامير بحز رقبة ثامر تحت انظار ميار التي تتعرف على الصوت والصورة للأمير الذباح الذي هو والدها (تنبه الى وجود موبايل على مسند خشبي ثلاثي، ما تزال كاميرته مفتوحة وتصور كل شيء امامها، فالتقطه بيد تاركا الرأس الذي ما زالت الدماء الساخنة تقطر منه على زهرات الزنبق، باليد الاخرى. فقرب الشاشة الى عينيه وركز في الوجه الذي شغلها. تراخت القوة التي يمسك بها الرأس.... كان يستغرق في لحظة اكتشاف ان ابنته الوحيدة ميار كانت تراه وهو ينغمس في اكثر انواع القتل عارا ووحشية.. ) ص 110. وهو ما يعني باننا نكتشف المعاناة والاحباط على طرفي الهاتف. كانت القصة معالجة بوعي واسترسال ينم عن هدف ايصال الفكرة بيسر واقناع فسجل القاص نقطة نجاح فيها. اما في قصة "ابطال على هامش النص" فنكون وجها لوجه مع عاشقين شكران وسمر قند، وهما يقومان بدور تمثيلي فاشل لمخرج مغرور. وهما ضحيتان سجلا انتكاسة في حياتهما منذ ثمان سنوات لم يستطيعا فيها التقارب والاقتران ببعضها فيفلتان من قيود المخرج المغرور ويخرجان عن طاعته. فيتحرك الشعور بالقرابة الانسانية معهما ونتعاطف بكل الكلمات التي بذخها كريم صبح في قصته. وفي قصة "الضفة الاقصى للموت" فثمة فتى يافع هو خليل ذي الخمسة عشر عاما. الحالم بان يكون مثل عمه استاذا جامعيا. خليل هذا يقوم برحلة صعبة ومميتة وهو يهرب من الدواعش عن طريق سري من ناحية الرياض بصحبة والدته وشقيقته وجدته. يعاني الامرين للوصول الى الضفة الاخرى للنهر وهي ضفة الحياة. يعبرون النهر سيرا على اقدامهم في حين تعاني الجدة وجعا رهيبا من البرد اللاذع الذي تسلل الى جسمها الهش فتموت وهم يصلون الى الجهة الاخرى (ليس من نفس وليس من عرق ينبض. كانت جثة هامدة. نسي الثلاثة من حولها كل المخاطر واستسلموا لنوبة بكاء استمرت حتى تباشير الصباح. امسى البكاء نشيجا مثل موسيقى حزينة يرتجفون وهم ملتصقين ببعضهم عندما غلبهم النعاس) ص 98. وفي قصة "عمو المهملة" الفتاة ذات الستة عشر ربيعا، وهي تحاول ان تكون اكبر من عمرها في تعاملها مع الاستاذ راجي الاربعيني الذي يناديها بكلمة عمو لكنها راحت ترفض رد تحية الاستاذ راجي اذا كانت مصحوبة بكلمة عمو. وهي حالة انهزام واضحة في السلوك الانساني امام وضع تخال انها تستطيع تغييره بتصرف اهوج لا يمت للواقع باية قرابة. اما شخصية فرج المسكين في قصة "ذهب مع الريح" فهي الهزيمة امام شيخ القرية وجماعته جراء خطأ ارتكبه فرج في المضيف، ترك على اثره القرية مدة طويلة لكنه طارده الى الابد. فرج هذا يمثل الانسان المكسور الذي لا يستطيع تغيير الحالة التي وقعت ولا يستطيع تغيير السخرية والهزؤ الذي قابله الشيخ وجماعته وهم يتضاحكون. ونكون امام المعلم المسالم الذي يضجر من لياليه في البيت الطيني في اطراف الحلة وهو يريد ان ينعم بنومة هانئة لولا تصرف الفأر المشاكس الذي يقرض كل شيء فيسبب ازعاجا له. يقوم المعلم باحضار صديقه العتوي (ذكر القط) من بيته في بغداد لكنه لا يستطيع الامساك بالفأر لأنه تعرف على قطة وراح يقضي كل الوقت معها (كنت واهما فهو لا يحتمل الوحدة القاسية. وعند شروق صباح احد ايام اسبوعي الثالث اكتشفت غيابه. ولا اعرف في اية ساعة من الليل رحل عني وعن مسكني الطيني الذي خيم عليه الحزن فجأة. فخرجت ابحث عنه مثل ام فقدت وليدها. لمحته من بعيد صحبة انثاه. كانا يتمازحان وهما يبتعدان عن القرية..) ص 81. ان قصص "رأس للايجار" للقاص الدكتور كريم صبح هي قصص اللغة الميسرة والمسترسلة والحبكة المتراصة القادرة على مسك خيوط الشخصيات التي تبحث عن خلاصها.

عرض مقالات: