مدخل نظري.. الفضاء

ترجم بعض النقاد العرب المصطلح الأجنبي Espace/Space بكلمة الفضاء وهي تعني الفراغ Emptiness ودلالة الفضاء في الذهنية اللغوية العربية (الفراغ /الخواء /العدم) حيث تستخدم اللغات الغربية لغوياً تعبيرات مثل Espace/Space للدلالة على المكان والفضاء رغم كثرة الدراسات الفلسفية واللغوية التي تبحث في الدلالات والفروق بين المكان والفضاء، فلا يماثل أفلاطون بين الفضاء والمادة مثله كالفيثاغورثيين، واعتمد فلسفياً في تصوره للفضاء على الرياضيات، واعتبر أن: "الفضاء دائم وغير قابل للتخريب".

المكان

يعد الموضع الذي يعيش عليه الإنسان، ويشمل سكنه، وينعكس تأثيره على تكوينه، وتتأثر به حياته وسلوكه، وعمله، وتجري فيه نشاطاته، وعلاقاته الإنسانية، ويتسع ليشمل البيئة من حوله (صحراوية/ جبلية زراعية//مدنية... الخ).
ويقول إيمانويل كانط: "إنّ المكان تمثّل ضروري قبلّي يتَّخذ أساساً للحدود الخارجية كافة، ويستحيل علينا تجاهل وجود المكان، في الوقت الذي يمكننا تصور عدم وجود الأشياء في المكان. لذلك يعد المكان شرطاً لوجود الأحداث وليس تحديداً متوقفاً عليها، وهو تمثل قبلّي يعتمد أساساً ضرورياً للأحداث الخارجية ".
ويرى يوري لوتمان Youri Lotman أن الإنسان "يُخضع المكان والعلاقات الإنسانية والنظم لإحداثيات، ويلجأ إلى اللغة لإضفاء إحداثيات مكانية على المنظومات الذهنية." وينْظُم مقابلات بين القيم والأماكن من وجهة نظر دلالية (سيموطيقية) (عال * واطئ = قـيّـم * رخيـص) (يمين * يسار = حسن * سيّـئ) (قريب * بعيد = أهل * غرباء) (مفتوح * مغلق = مفهوم * غامض)...الخ، فيساعد إضفاء صفات مكانية على الأفكار المجردة في تجسيدها، فتستخدم التعبيرات المكانية بالتبادل مع المجرد لتقريب الفهم، وينطبق ذلك على أغلب المنظومات الاجتماعية، والدينية، والسياسية، والأخلاقية، والزمانية.
ويتجسد المكان السردي على سبيل المثال من خلال تمثيل القيمة بالمكان، وتقابل القيم بتقابل الأمكنة، فالقصر الكبير للغني القوي القادر، والبيت الصغير الضيق للفقير، فتصبح أماكن مباحة، وأخرى محظورة، فالقصر محظور على الفقير، وبيت الفقير مباح للغني، ومن الصعب على الفقير اختراق القصر؛ وليس هذا الحدّ مكانياً إنما هو حد اجتماعي اقتصادي، يفصل بين مكانين، يمثلان رؤية إنسانية للواقع يحيل لها البناء الفني السردي، وأسس الناقد المغربي د.حسن بحراوى منهجاً لتصنيف المكان وفق ثلاثة مفاهيم، تدلل على أهمية المكان في السرد وما يمتلك من أبعاد ودلالات منطلقاً من دراسات لوتمان وهي:
التقاطب/ التضاد/ التباين Contrast : وتعني وجود قطبين متعارضين في المكان وفق (تقابلات ضدية) كالإقامة والانتقال؛ غياب حضور؛ قديم جديد... الخ.
التراتب The Hierarchy يتوزع فيه المكان إلى عدة طبقات أو فئات مكانية وفق مبدأ تراتبي معقد.
الرؤية Vision تمدّنا بالمعرفة الموضوعية أو الذاتية التي تحملها الشخصية عن المكان، وتحيطنا علماً بكيفية إدراك أبعاده وصفاته.

منهج القراءة

تعتمد هذه القراءة منهجاً تفكيكياً، يستهدف التعرف على المكونات الفكرية التي اعتمدها الكاتب في مشروعه النقدي الكبير، واكتشاف الفراغات في هذا العمل الطموح؛ كما تحاول تفسير بعض من النقد التحليلي للمكان كما جاء في تنظير الناقد العراقي ياسين النصير في دراسته القيمة (مَدْخَلٌ إِلَى النَّقد الْمَكَانِيّ) التي تدرس المكان في الإبداع السردي، ثم كُتب ثلاثة، صدرت خلال الفترة من عام 1980 حتى 1986م وهي (الرواية والمكان الجزء الأول، والرواية والمكان الجزء الثاني، والمكان في قصص الأطفال) جمعها الكاتب في مطبوعة واحدة حيث يرى أنها، تشكل وحدة رؤية نقدية منهجية متسقة، يمثل الجزء الأول رؤية (واقعية اجتماعية) لعلاقة المكان بالنص، وطبق في الجزء الثاني هذه الرؤية على أمكنة محددة، تعاملت الرواية العراقية معها، ويمثل الكتاب الثالث رؤية لشعرية العلاقة بين قصة الطفل والأمكنة المتخيلة.

المكانُ، والفضاء، والزمان

عدّ المكان والفضاء إسمين لمعنى واحد في الفلسفة الغربية القديمة التي مزجت بين الفضاء والمكان، فساد القول بأن المكان هو الفضاء، والفضاء مكانٌ، فلم تُعرف الحدود بينهما بدقة، وكانت النَّتيجة مزيجاً من التصورات المختلفة عن حقلين مختلفين، رغم كونهما من جذر فلسفيّ واحد، ولم تفصل الفلسّفة الغربية بين الفضاء والمكان إلّا بداية القرن العشرين، وكان الفصل بينهما نتيجة لنمو دراسة الصلة بين الأدب والمكان، والعلاقة بين المكان والزمان في بنيَّة التطور الاجتماعي الاقتصادي الحداثي الغربي-خاصة- بعد تأكيد الرياضيات لصحة نظرية النسبية العامة والخاصة عن الزمكان.

حين يسكن المكانُ الكاتبَ

انشغل الكاتب بعدد كبير من المؤلفات في البحث عن تأثيرات المكان على مختلف الأشكال السردية الإبداعية، وألف عدة كتب تتناول مباحث متنوعة في تأثير المكان على المكونات السردية، وتتناول هذه القراءة ثلاثة كتب مدمجة، وكتاب مستقل تتناول كلها علاقات المكان بعناصر السرد الأخرى، يتضمن العمل الأول الذي يضم الكتب الثلاثة المدمجة ثلاثة فصول الأول عن المكان المفترض، والثاني عن المكان الموضوعي، والفصل الثالث عن المكان ذو البعد الواحد، ويتضمن الكتاب الثاني فصولا ثلاثة الفصل الأول بعنوان لماذا المكان؟ والفصل الثاني عن (الأمكنة المركزة-البئر-المقهى-الكوخ-الغرف-السلالم-الشارع-الصحراء-الأمكنة المتحركة) ويتضمن الفصل الثالث تطبيقات عن (الأمكنة الشعبية-الخيمة-بيوت القصب-الخربة-كائنات مملكة المياه-القارب والضحية-الأسماك).
ويتناول كتاب المكان في قصص الأطفال ستة فصول (ثنائيات-البيوت-الأشياء الصغيرة-الماء-الرياح-المكان المتحول) وملحق، حيث حاول الناقد في أعماله تلك اكتشاف ما للمكان من قيمة جمالية وفكرية في السرد لبيان العلاقة بين المكان والرواية، عبر رؤية نقدية فنية، مُستعرضاً ما سماه الروايات العراقية الأولى للكتاب جلال خالد، ومحمود أحمد السيد وذنون أيوب وعبد الحق فاضل بقراءة ملامح المكان لدى كل منهم ودوره في بناء الحدث السردي، باحثاً عن خصوصية المكان وأثره على السرد، والصراع الفكري والاجتماعي.
ويطرح ياسين النصير تساؤلاً عن الرواية العراقية في خمسينيات القرن العشرين "كيف لم تكتب رواية ناجحة في الخمسينيات؟" ويجيب باحتمال أن الخمسينيات لم تمتلك كُتاباً كسابقاتها، وأن رواية هذه المرحلة، ورثت تقاليد فنية غير قادرة على استيعاب ما يحدث على أرضيتها؛ بينما برزت أواسط الستينيات الأماكن شبه المنعزلة كالمقاهي، والشوارع، والنوادي، والأزقة الضيقة؛ كأماكن مفضّلة للكاتب رأى العراق فيها، فساهم ذلك في نهضة الرواية العراقية، ويعلن الكاتب موقفاً يسارياً واضحاً من قراءته لروايات مكانها الريف؛ حيث لا تعني هذه الأعمال الريف بالنسبة له إلا إذا جسدت علاقات الإنتاج السائدة، فلا يصبح لمكان وجوداً في العمل السردي إلا إذا ظهرت خصوصية المكان، ورفض تقسيم المكان لريفي وآخر حضري، وقسمه إلى موضوعي ومفترض.
أكد ذلك ما جاء في دراسته القيمة (مَدْخَلٌ إِلَى النَّقد الْمَكَانِيّ) والتي تتكون من جزأين، يضم الجزء الأول منها فصلاً أوَّلاً (استهلال) وفصلاً ثّانياً (ما المكان، وما الفضاء؟) ثم ثَّالثاً (خِطاب الفضاء)، ويتناول الفصل الرابع (المألفة) والفصل الخامس (التفضيَّ) والسادس (الموضَعة) والسابع (المابين) والثامن (المسافة) والتاسع (الاِستعارات الفضائية) والعاشر (الاِستعارات الاتجاهيّة)، ليتناول في الفصل الحادي عشر (الكفاءة الاتصالية) بينما يتناول الجزء الثاني التطبيق العملي الذي يتضمن مدخلاً لدراسة النماذج؛ ثم يقدم تطبيقاته في الفصل الثالث عشر من خلال ما سماه الهندسة الفضائية (الشُّباك والساحة) لمحمود عبد الوهاب، والفصل الرابع عشر الكلام فضاءً (بصرياثا) لمحمّد خضيّر، ثم الفصل الخامس عشر الإيهام الفضائيّ الثانويّ (ملحمة جلجامش) ليختتم دراسته هذه بالفصل السادس عشر: الفضاء الموازي، قصيدة (في الليل) لبدر شاكر السياب، حيث يرى ياسين النصير للمكان حدان: حد داخلي/ذاتي، وحد خارجي /فضائي.
الحدّ الأوَّل: وهو الحدود المكانية للشيء المحكي عنه، والذي يفرضه تكوين الشيء، حيث له حد داخلي، يميّزه كظاهرة باطنية، وحدّ خارجي يحيط به، يعزله عن حدود الأشياء الخارجية الأخرى.
الحد الثَّاني: هو الحد الممتد فضائياً خارج حدود النَّص الداخلية، حيث تمتد الحدود الخارجية نحو العالم، وتسمى حدود الأشياء الخارجية بـ (الحدود الفضائية) التي تتمدد فيها علاقات الشيء الداخلية باتجاه العالم.
مما يوضح رؤية الكاتب الخاصة للمكان.

المبدع والمكان

يقدم ياسين النصير في أعماله النقدية موقفاً بحثياً جاداً ورؤية متعمقة في علاقة المكان بعناصر الحياة، وتجليات العلاقة بين المبدع والكتابة سواء كانت شكلاً من أشكال السرد الحكائي أو الشعري.
ويعبر عن رؤيته Visionللمكان في دراسة (مَدْخَلٌ إِلَى النَّقد الْمَكَانِيّ) بقوله إنها: "محاولةٌ الإمساك بهذا الشيء الغامّر الذي نحسّه ونتفاعل معه، شيء ما موجود ولكنه لا يعطي من وجوده وماهيتَّه إلّا وجهًا واحدًا، هو الوجه الذي يباشرنا، أما وجوهه الأخرى فلا تظهر إلا بفعل رؤيَّة خاصة بها، فالمكان ينتج فرضيات لا حدَّ لها في صياغة الكثير من مفردات حياتنا اليومية، فالأمكنة شأنها شأن الناس، منهم من يكون حاكمًا مستبدًا، ومنهم من يكون رعيةً وإنسانًا عاديٌا، ومنهم من يكون "بين بين"، والصراع بين الأمكنّة كالصراع بين البشر".
يعكس هذا الموقف تماهياً منهجياً مع مفهوم الناقد المغربي د.حسن بحراوى عن رؤية الكاتب للمكان، ومتوافقاً مع يوري لوتمان مما يؤكد رؤية علمية حداثية في نقد ياسين النصير، يمكن وصفها بأنها (رؤية واقعية اجتماعية) ويتعمق في تأويل العلاقة بين المكان والفضاء مستعيناً بدراسات الدكتور حسن مجيد العبيدي.
ويؤكد موقف ياسين النصير النقدي من المكان رؤية واعية بتراتبية المكان Hierarchy وانعكاس هذا التراتب على الشخصيات والأحداث: "فالأمكّنة ليست مظهرًا للسلطة فقط، إنَّما هي أرضية منتجة للهيمنة على الجغرافيّا الروحيَّة للناس، بعد هيمنتها على الجغرافيَّة الطبيعيَّة للإنتاج، فالملكيَّة المكانيَّة امتداد لمواقع القوة، ولنا في "الملك لير" نموذجًا عندما قسَّم مملكته بين بناته، ثم طُرد منها ليهيم على وجهه في شوارع المملكة، متخليًا حتى عن ملابسه، عاريًا من ملكوت السلطتين الجغرافيّة والروحية، متوحدًا مع رعايا مملكته الفقراء، متحسسًا معاناتهم."
ويقدم لنا الكاتب تصوراً ثرياً عما يعكسه المكان من Contrast تقاطب/تضاد/تباين، ويتضح وعيه بوجود قطبين متعارضين في المكان وفق (تقابلات ضدية) فيقول "فالأمكّنة ليست مظهراً للسلطة فقط، إنَّما هي أرضية منتجة للهيمنة على الجغرافيّا الروحيَّة للناس، بعد هيمنتها على الجغرافيَّة الطبيعيَّة للإنتاج، فالملكيَّة المكانيَّة امتداد لمواقع القوة". ويرى للمكان سلطة اقتصادية وظيفية في إطار علاقات الإنتاج، حيث "المدينة تمتلك قوى مؤسساتية تخضع الأمكنة لآليات الإنتاج، وينتج جراء هذه الهيمنة حضور للوعي الاجتماعي المؤسساتي؛ إلا أن العلاقة بين المدينة والناس متجذرة في الممارسات اليومية والإنسانية والعملية". وهي رؤية تقترب بشدة من تفسير علاقات الإنتاج في الفلسفة الماركسية، وتقدم فهماً سوسيولوجياً لطبيعة السلوك الإنساني في المكان كعلاقة جدلية بين الإنسان، والفعل، والمكان.

المبدع والفضاء

لكن يقدم رؤية إشكالية لمفهوم الفضاء عبر ثقافة عريضة، تبين وعياً بوجود اختلافات تاريخية في التعامل مع مفهوم الفضاء حيث يقول في كتابه (مَدْخَلٌ إِلَى النَّقد الْمَكَانِيّ): "استغرقت قضية التفريق بين المكان والفضاء تاريخ الفلسفة كله، هذا ما تشير إليه المصادر؛ من أن هذين المفهومين بقيا قضيَّة غير محسومة لا في التفكير اليوناني ولا في تفكير المراحل الكبرى التي ابتدأت بعصري النهضة والأنوار وإلى اليوم، فهذه القضيَّة فلسفيَّة قبل أن تكون قضيَّة نقديَّة أو استثمارية، ونجدها تكتسب طابعًا كونيًا عندما ترتبط بمشاريع انثروبولوجية أو ثقافية، أو استثمارية، أو كولونيالية أو مجتمعية". ويستشهد في مفتتح الفصل الثاني من نفس الكتاب بمقولة هايدجر: "فوراء الفضاء، كما سيبدو لا شيء إضافيًّا معطى ليُقتفى أثره؛ وقبل الفضاء ليس ثمَّة عودة إلى شيء آخر؛ إنّ الطابع الخاص للفضاء يجب أنّ يبتدئ من الفضاء نفسه؛ فهل لا يزال ممكنا التعبير عن الطابع الخاص للفضاء؟".
ويوضح أن أول تفريق صارم بين المكان والفضاء، جاء على يد الفيلسوف الإغريقي أرخيتاس (427-347 ق. م) الذي أكّد أن "هناك فرقا بين المكان والفضاء الذي يختلف عن المادة ومستقل عنها". أي أنّ المكان مادي، والفضاء غير مادي، حيث تعبر بعض الدراسات الغربية عن الفضاء بما يوحي بكونه ما يفارق المكان الأرضي فيزيقياً، فعلى سبيل المثال تقول إحدى الدراسات إن: "الفضاء الخارجي هو المنطقة التي تقع على بُعد مئة كيلومتر فوق الكوكب، وتتميز هذه المنطقة بأنها فراغ لا تحمل أي هواء بكمية ملحوظة للتنفس، أو لانتشار الضوء فيها، بالإضافة إلى أنها فارغة هوائياً، فالصوت لا ينتقل فيها وذلك لأن الجزيئات ليست قريبة بما فيه الكفاية، لتنقل الصوت فيما بينها".
لكن يقفز ناقدنا فوق التفسير الفيزيقي للفراغ، متوافقاً مع أرسطو الذي اعتبر التمييز بين المكان والفضاء "أمراً حاسماً نظريّاً، لكنَّه ملتبس عند التطبيق". فيصنع تصوره الخاص لمفهوم الفضاء، ويلقي بحجر آخر في بحيرة الأفكار الملتبسة حول المكان والفضاء فيقول: "المكان والفضاء هما من الاشياء، أيضاً، وقد نستعيض بالحديث عن المكان والفضاء بالأشياء والعكس أيضاً، هذا يعني أن الأشياء ليست كيانات مستقلة عن أمكنتها، والأمكنة عن اشيائها، كما أن الإنسان ليس مستقلاً عن أمكنته وفضاءاته فما يعمله فيها وتعمله فيه، هو جزء من العلاقة الجدلية بين الإنسان وفضاءات حياته".

المكان والفضاء... علاقة إشكالية

عبرت الفقرة السابقة عن رؤية الكاتب للفارق الجوهري بين (المكان) الذي يراه (موضوعاً واقعياً) بينما (الفضاء) هو (وعاء لمركب) معقد من الموضوعات، ويستشهد بالمثقف المغربي منيب محمد البوريمي وتمييزه بين المكان والفضاء الروائي فيقول "الفضاء الروائي هو الحيز المكانيّ الذي تتمظهر فيه الشخصيات والأشياء متلبسة بالأحداث تبعًا لعوامل عدّة تتَّصل بالرؤيا الفلسفيَّة وبنوعية الجنس الأدبي وبحساسية الكاتب (أو الروائي)، وعلى هذا فالفضاء الروائي يتسع (اصطلاحًا) ليحتوي أشياء متباينة ومتعددة، لا حصر لها، بدءًا من المساحة الورقية التي يتحقّق عبر بياضها جسد الكتابة، إلى المكان/الزمان/ الأشياء/ اللغة/ الأحداث، التي تقع تحت سلَّطة إدراكنا عبر أنماط السرد، والتي تجسد عالم الرواية" .
يضع هذا التفسير للفضاء الروائي مساحة تعبير عن الفضاء، تراه وعاءً شاملاً لعناصر السرد، يحتوي المكان ضمنياً، فيحدث نتيجة لذلك الفصل المنهجي بين المكان باعتباره مكوناً سردياً، يحتويه فضاء السرد مع بقية العناصر السردية من زمن وشخصيات وأحداث... الخ.

ختاماً...

رغم وضوح رؤية الكاتب التي تميز المكان كوجود فيزيقي يتجلى في السرد بتمظهراته، والفضاء السردي كوعاء لعناصر السرد؛ إلا أن جدلية المكان والفضاء تظل مسيطرة على المفكر الناقد باعتبارها جدلية ثقافية ذات عمق فلسفي، فيستحضر الفضاء كقوة مهيمنة، مستشهداً بإنجازات العلوم الطبيعية التي ميزت بين الأمكنة المادية بما فيها من أشياء وبشر، والفضاء المجهول الذي تستحضره المخيلة.
يدرك ياسين النصير من موقع باحث جاد أن تحليل العلاقة بين المكان والفضاء موضوع فلسفي، يتجاوز الرؤية النقدية الأدبية أو اللغوية، فيقدم في عمله النقدي رؤية بحثيةً جادةً متعمقة في علاقة المكان بعناصر الحياة، ومفهوم الفضاء في السرد، وتجليات متنوعة ميز فيها بين مفهوم المكان والفضاء وهو ما لم يختلف عليه مع غالبية نقاد السرد؛ إلا في بناء علاقة ذات عمق ثقافي فلسفي بين المكان والفضاء؛ حيث ميزت الدراسات والإنجازات العلمية النظرية والتطبيقية بين الأمكنة الواقعية المعاشة ببشرها وأشيائهم، والأمكنة الفضائية كمجهول تستحضره المخيلة، حيث: "يفوق الفضاء كثيراً مجرد إشارة إلى المكان، بل يتشكِّل بمفهوم نظريَّ فلسفيَّ داخل النَّص الروائي، في الوقت الذي يتعاطى بإخلاص لعكس واقع خارجي، يسعى لصياغته وتقديمه".
ويؤكد الكاتب إشكالية العلاقة بين المكان الفيزيقي، والفضاء المجرد بقوله: "يصبح الحديث في نهاية القرن العشرين عن حدود الكليٍّات ضرباً من الوَّهم، فقد فككت نظريّات القرن العشرين -الماركسية والفرويدية والهايدغرية- حدود الكليٍّات التي هيمنت على مجالات التَّفكير الفلسفي والثقافي طوال القرن التاسع عشر، وشظتها إلى جزئيات ولكن بحدود أيضاً، فكيف سنتحدث عن حدّ للمكان وما يحيط بنا ونحيط به، وكأن لا شيء يحدث دون فهم هذه العلاقة، ونحن في بداية قرن التفكيك لكلّ الكليِّات؟".
سؤال فلسفي عميق، يطرحه الكاتب المفكر، متوقعاً إدراك المبدعين والمتلقين للإجابة ذاتها التي يدرك، فهل أدركنا؟.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جوزيف. أ. كيسنر: شعرية الفضاء الروائي، ترجمة لحسن إحمامة، مكتبة بستان المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع منشورات أفريقيا الشرق، بيروت-لبنان، 2003م، ص 19.
سيزا قاسم-يوري لوتمان وآخرون: جماليات المكان، منشورات عيون المقالات، باندونج، الدار البيضاء، المملكة المغربية
يوري لوتمان: من أهم الشكلانيين الروس الذين اهتموا بسيميوطيقا الثقافة، علاوة على عنايته ببنية النص الفني.
حسن بحراوي: بنية الشكل الروائي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المملكة المغربية.
د. حسن مجيد العبيدي: باحث، وأستاذ فلسفة الأدب في الجامعات العراقية، وله مؤلفات هامة، وترجمات في الفلسفة، وفلسفة الأدب، والنقد.
Elizabeth Howell: "What is Space?", www.space.com, Retrieved 3-9-2018. Edited (7-6-2017).
منيب محمد البوريمي: أحد أقطاب الأمازيغ من المؤرخين والمثقفين الكبار بالمغرب.
منيب محمد البوريمي: الفضاء الروائي-الإطار والدلالة، كتاب الجيب، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، د. ت، ص 20.
عبد الرحيم حزل (ترجمة): الفضاء الروائي، تأليف مجموعة من الكتاب منشورات افريقيا الشرق، 2002، ص 25.

عرض مقالات: