كان يوم الخميس الماضي 16-5-2019 بداية عمل جاد لعودة فرقة المسرح الفني الحديث بحلتها التقنية والمعرفية الجديدة  الى العمل، بعد ان تنادى الرعيل الثاني من قادتها وأعضائها على مواصلة حضورها في الساحة الثقافية والفنية، يتقدم ركب هذه العينة المتميزة  الفنان الكبير الدكتور سامي عبد الحميد والمخرج الطليعي الدكتور جواد الأسدي ونخبة من اخيار الفنون وتقنيات الكتابة والمعرفة والطماح الفكري، كنت من بين الحاضرين وانا استمع لنبض الشارع الثقافي وهو يوجه نداءه لهذه النخبة المتمرسة بالفن أن اعيدوا فرقة المسرح الحديث بعد أن يأسنا من أن نجد عملًا فنيًا بهوية تقنية واسلوبية معاصرة، وبنصوص كبيرة كما كنا نشهد عروضها في السبعينيات والثمانينيات، بحيث شكلت للثقافة العراقية يومذاك رافدًا مهمًا وكبيرًا إلى جوار الشعر والرواية والقصة، المسرح هذا البناء الحواري الذي يقدم شرائح اجتماعية مختلفة، كان مرآة للشعب العراقي وهو يرى نفسه ممثلًا على مسرح الحياة منقولًا إليه من الحياة الشعبية وبناها السياسية والاجتماعية على هيئة افكار ورؤى اخراجية وشخصيات نتعرف من خلالها عن انفسنا وحياتنا، عن ما نحب وما لانحب، هذه الدراما الشعبية التي كانت تقدمها فرقة المسرح الفني الحديث إلى جوار ما كان يقدم في المسرح الشعبي ومسرح اليوم والفرقة القومية وفرق المحافظات، كان صورة بانورامية للثقافة التقدمية وهي تنتشر في ربوع العراق وتتضايف عروضها ويقصدها الجمهور من المحافظات لا ليروا الممثلين الكبار وطرائق الاخراج الفني واختيارات النصوص، فقط، بل ليروا انفسهم وقضاياهم وما يطمحون إليه معروضًا وممثلًا ومكتوبًا حركة وديكورا وانارة وعرضًا ونقدًا وصحافة واعلانًا، حقيقة لم تكن اعمال المسرح العراقي إلا تعميقًا للهوية الوطنية التقدمية التي كان المعنيون يختارون لها نصوصًا من الثقافات العالمية المختلفة ويوشونها بتطعيم اجزاء من حياتنا اليومية، ولذلك نشأ في خضم هذا البحث المشترك بين الفرقة وجمهورها النقد المسرحي، الذي اردف تاريخ الاعمال بما يقوم به الممثلون والمؤلفون والمخرجون، وحصيلة ذلك كله ان التطور للفن المسرحي كان تطورًا شاملًا؛ النص تطور فبحث في التاريخ اللغوي والمعرفي، الاخراج تطور فاندمجت الرؤى المحلية بتيارات الحداثة العالمية، التأليف تقارب مع مسرحيات عالمية، الديكور انتقل من الواقعية الطبيعية الى الواقعية الفنية، تطور الأعلان والفولدر والمكياج والانارة وطريقة استقبال الجمهور، ونشأت معرفة تظافرية بين الجمهور والعاملين، و أنعكس ذلك على سلوك الفنانين عندما يسيرون في الشارع،او يلتقون مع الجمهور، او ينتدبون للحديث، وعلى مستويات المعرفة الجمالية، نجد بروز فنية الاعداد والتأليف بطريقة كانت سباقة في المسرح العربي، بحيث أن عروضًا عديدة استقطبت اهتمام النقاد والفنانين ومدارسهم وجمهورهم وحصلت على جوائز عديدة. في صفحة اخرىمن حياة فرقة المسرح الفني الحديثن وصل مسرحنا العراقي إلى منطقة المجاورة مع المسرح المصري المتقدم والعريق، ومع المسرح المغربي والتونسي، وهذه نقلة كبيرة مازلنا إلى اليوم نعيش ابعادها ونستنشق هواءها الفني والتقدمي.

الان، وبعدان تشكلت هيئة جديدة من عناصر كفؤة ومسؤولة بدأ العمل باعادة هذه الفرقة للعمل، بعد أن شعر الجميع أن المسرح العراقي اليوم ليس بخير نتيجة لأسباب عديدة في مقدمتها عدم اهتمام الدولة بالفنون، ومنها الفن المسرحي، بينما تهتم بفنونها الدينية والمناطقية الى الحد الذي يشعر الفنان العراقي فيه بالغبن. نقطة اخرى اخذت هذه المجموعة التقنية على عاتقها أن تهتم بالشباب والمرأة والطاقات الفنية الجديدة، لذلك وضعت الخطوط العامة للنهوض بهذه الشرائح، ليس من أجل أن يكونوا حاضرين في عروضها، بل لاطعامهم حرية الفن  وتنمية قدراتهم المكبوتة للتعبير عن جمالية الحياة وعن رؤاهم وافكارهم المستقبلية، وعن إشراكهم في بناء وطنهم عبر الثقافة والفن والعلم والتقنية الحديثة.

لاشك، وقد بحثنا تصورات عديدة، ان مشكلة التمويل ليست سهلة، لذلك نعول كثيرًا على محبي الفن وعلى من يمتلك قدرة الاستمرار ان يرفد هذا المشروع التنويري بما يجعله أهلًا لأن يكون فاعلًا في بناء الجمال والثقافة والوطنية والعلم والحداثة، وهو ما نراهن عليه بعد ان هيأنا أوليات النهوض الممكنة.

عرض مقالات: