الى جانب التعقيدات والبلاءات التي يعانى منها العراق العجيب، يأتي وربما في المقدمة من كل ذلك، بل وأساسه: التخلف المعرفي والثقافي، والجهل المعلوماتي، في المجتمع، دعوا عنكم الامية التعليمية.. ولكل هذا وذلك خلفيات تسببت بها مراحل تاريخية مديدة مرت على البلاد العراقية تحت وطأة الأنظمة المتلاحقة، وأربابها، الذين لا يمكن لهم ان يُديموا سلطاتهم وسلطانهم إلا بسيادة وشيوع ذلكم التخلف والجهل على فئات الشعب المختلفة، مع بعض الاستثناءات طبعا..

    وفي القضايا الاهم تبرز تلكم الحال، بواقعها المرير، على قضايا مصيرية وحساسة، وبالغة التأثير على المسارات اللاحقة، وفي مقدمتها كما أزعم الانتخابات، والاستفتاءات العامة، وغيرها من مشابهات.. اما المعالجات والتراكمات فلتلك دراسات وبرامج وأليات قصيرة المدى، ومتوسطة وبعيدة المديات، وتأثيرات ومؤثرات داخلية وخارجية، ليس مجال الحديث عنها الآن..

    ومناسبة هذه الكتابة تأتي بعدما التهبت به وسائل ومنصات الاعلام خلال الايام القليلة الماضية، وأعنى ما يتعلق بمقترح "لنشيد" الوطني الجديد  الذي تداوله – ويتداوله - البرلمان منذ نحو عشرة اعوام، والى الان،  ولم يستطع البت به، وللأسباب المعروفة ذاتها التي أدت وما برحت الى ما هو عليه الوضع في البلاد.. والموقف الاخير من المقترح الجديد  لذلك النشيد ( من كلمات اسعد الغريري، وتلحين واداء كاظم الساهر)  قد يُغني عن الكثير من التفاصيل المؤسية، ويؤشر وبكل وضوح لما ارادت السطور السابقات، واللاحقات التأشير اليه .

    وعن مضمون ذلك المقترح سأزعم بكل ثقة بأن جوهر كل التأييد له: (فهماً !) وأقتراحاً وتأييدا وحماسةً جاءت كلها بسبب كلمتين وحسب، وردتا في النص، وهما اسم الامام الحسين، وارض كربلاء، وكل ما سبق ولحق، وما سيلحق، فلا يعني شيئا  للذين شمروا عن سواعدهم- وليس السنتهم وأقلامهم. فللألسن والاقلام مكانة وادوار اسمى لا يقدر عليها غير القادرين . وبتفصيل أكثر أدعي بأن من غير المهم أصلاً لمروجي "النشيد"  – بأستثناء العاطفيات وسبل الارتزاق- ولا يعنيهم لا كاتب النص، ولا مضمونه، ولا ملحنه، ولا مغنيه، ولا اهمية وديمومة النشيد، ولا الأعراف والتقاليد المعتمدة- او التي يجب ان تعتمد- بشأن الأمر..

  وبدافع واحد وحيد، وهو ان نغلق الباب امام من يريد ان يزايد، سأوضح في الهامش الاول، بعد نهاية هذه المادة، من هو كاتب هذه  السطور التي امامكم، وماذا يعني له الامام الحسين، وماذا تعني له فاجعة ومأثرة كربلاء(1)... والآن أستمر وأكرر، كما نشرت في السنوات القليلة الماضية بأن من اهم مقومات النشيد الوطني العراقي، الجديد ان يكون موحِداً، ومعبرا عن المشتركات الوطنية العامة، ومسارات وآفاق المسيرة العراقية المنشودة، وأن لا يتغيّر بتغير السلطات، أو القوى النافذة (2).   

    وبصراحـة ووضوح أقول ان ذكر الامام الحسين في مقترح النشيد، لم يأتِ اصلاً عن قناعة او ايمان، كما تابعتُ وأستقرأت،  فأزعم. وأضيف: انه سيستفز مشاعر نسبة غير قليلة من المجتمع العراقي، ولو جاء رد الفعل ذاك باطنياَ، ولا أظنّ ان الامر يحتاج لتفاصيل. كما ان اسم كربلاء الوارد في مقترح النشيد "الوطني" سيقابل بردود فعل نافرة، ولربما سيكون التعبير عنها أكثر ظهورا. فغالبية أهل الموصل، والفلوجة – مثلاً-  يرون بأن مدينيتهما شهدتا فواجع أكبر من فاجعة كربلاء.  كما ان مدينة حلبجة بالنسبة للكرد هي رمز الفواجع القومية، الحديثة على الاقل، وتفوق بكثير مأثرة ومأساة كربلاء.. وهكذا.  فهل على النشيد الوطني يا ترى أن يبرز ويتوقف عند كل ذلك وغيره، ليصبح وكأنه بيان سياسي او موجز تاريخي؟!.

    وعودة لبعض مضمون السطور السابقة، وتحديدا حول "القوى النافذة" وتأثيرها على ترشيح أو اختيار مقترح النشيد الوطني الجديد، أقول ان لجنة الثقافة والاعلام في مجلس النواب رجحت عام 2012 بضعة ابيات من شعر الجواهري الخالدعلى غيرها من شعر السياب والكاظمي، لتكون النشيد المطلوب. ثم دارت السنون، والمقترح مركون، بل ومخفيّ على الاصح، على الرفوف او داخل مجرات المكاتب. ثم جرت انتخابات برلمانية جديدة، فتقدم بعض ممثلي قوة فائزة جديدة، لترشح مقترحاً جديداُ، وهو الذي تدور حوله النقاشات المتخصصة وغيرها اليوم، بشأن محتوى كلماته، ورقيّها، وكاتبها، وكذلك عن  ملحنه ومؤديه. وما نتوقعه والحال كهذه ان اية انتخابات قادمة، تفرز فائزا جديدا، او تحالفات نيابية جديدة، ستقود لطرح مقترح جديد للنشيد الوطني، وتلغي سابقه. وذلك الوضع ما نبهنا اليه في كتاباتنا السابقة، حين قدم مركز الجواهري اول مقترح للنشيد عام 2007  وتم تلحينه من اكثر من ملحن، وموسيقي متخصص، وشارك في ادائه أكثر من منشد، أو منشدين (3) .

    ومن الموضوعية بمكان أن لا يصار الى تناول كاتب كلمات تُقترح للنشيد الوطني، ثم يجري تبنيها، خاصة وانه لم يتقدم شخصيا بذلك، وانما قام به غيره .. ولا أظن بأن احداً  من الشعراء او الكتاب لا يتمنى ان يُخلد اسمه كمؤلف لمثل هذا المقام الرفيع، وأعني به النشيد الوطني... وأستدرك هنا لأقول بأن الموضوعية تقتضي ايضا ألاّ يسعى المتسوقون، والمتسلقون وغيرهم فيذهبون للمقارنة بين اولئك الشعراء والكتبة، مع الجواهري الخالد " لكي لا نُعيّر باننا قوم ينكرون الجميل، ويكفرون بالنعم" (4) .

    وبالمناسبة فقد لفتت انتباه المتابعين كثرةٌ من اسماء الادباء والشعراء والمثقفين، اللامعين، الذين علقوا وعقبوا وبيّنوا آراءهم بشأن الموضوع، وخاصة بعد البيان الاخير، التوثيقي والجرئ،  لاتحاد الادباء والكتاب العراقيين. وقد ابدى اولئك اللامعون وبلا تردد الانحياز لشعر الجواهري، ولكنهم لم يتحدثوا - ترفعاً بالطبع، وذلك هو الاساس- ولم يقارنوا الكفاءة والتاريخ والعطاء، بأعتبار ذلك شأناً محسوما.. اما "البواقون" و"القوالون" فما علينا بهم هنا، إذ لسنا بمعلمين لتلاميذ في دورات مكافحة الامية التعليمية!.

    أخيرا .. يبدو لي أن أصحّ ما ينطبق عليه الحال اليوم، بهذا الشأن، ان نستعير ما قاله الشاعر نزار قباني، بعيّـدَ رحيل الجواهري الخالد في تموز 1997 وبما معناه" دعوا الجواهري قرنيّن، وحينها ستدرك عبقريته، ومجده ..". ونضيف، ومن عندنا هذه المرة: ذلك هو المتنبي العربي،  والفرنس فولتير، والانجلزي شكسبير، والالماني غوته، والروسي بوشكين، والايطالي دانتي وكلهم، وأقرانهم شامخون بقاماتهم المعروفة وعبقرياتهم، دون ان يكونوا قد كتبوا اناشيد وطنية لشعوبهم، او بلدانهم..

----------------------------------------------------

براغ / اذار 2019

1/ جدّ الكاتب، لأبيه، السيد النجفي، العالم الفقيه: ابراهيم بن علي العريضي الحسيني، الملقب بالجصاني.. وجده لأمه، إمام زمانه، الشيخ الفقيه اية الله العظمى، محمد حسن صاحب الجواهر (الجواهري) النجفي.

2/ منشور في موقع الحوار المتمدن، ومواقع عديدة أخرى تحت عنوان نشيد وطني ، جديد من شعر الجواهري الخالد.. والرابط لمن يريد المزيد من المتابعة:

http://www.m.ahewar.org/s.asp?aid=229483&r=0

3/ العديد منها منشور حاليا على موقع (يو تيوب).

4/ في حالة مشابهة نشر الجواهري ردا  في صحيفة تشرين السورية بتاريخ 1987.7.18  وفيه ما يغني عن كل اضافة واسهاب... ومما جاء فيه:

"... من حقي - ومن حقوق النشر - ان أعقب، فمن جهة لا اعتراض لي هناك على ما تعتبرونه من باب "حرية الرأي"، و"حرية التعبير". ولكنني، من الجهة الثانية أحب أن أذكركم بوجوب مراعاة "المقاييس" و"القيم" في المحاورات الأدبية. فلم يكن في القديم مثلاً إلى جانب أشباه (النابغة) إلا من يعلقون أشعارهم على أستار (الكعبة). وعلى حجومهم ومعاييرهم في من يعارضونهم، ويناقضونهم.

وفي العهد الوسيط (الذهبي) كان في من ينازل (المتنبي) العظيم أمثال (الامام) ابن خالويه، وفي من يروون عنه ويتعصبون له، ويشرحون أشعاره أمثال الامام (ابن جني) و(ابن العميد) و(الصاحب بن عباد)... كما لم يكن حتى في (عصرنا الحديث) ممن هم مع (شوقي) أو ممن هم عليه إلا من حجوم (العقاد) و(المازني) و(الرافعي) و(طه حسين)... ومن كل ذلك، ومن أمثاله كان الأدب العربي برمته، يزداد رونقاً، والحرف العربي أصالة، وكانت الأجيال المعاصرة والمتعاقبة تزداد على مثل هذا (الزاد الكريم).. عافية ونشاطاً.

أما أن يكون ما يسمح لنا به الزمن من رصيد جديد، وعلى ضوء العصر الجديد عرضة مشاعة لمن هبّ ودبّ، ممن يجربون القلم وعلى صفحات صحف سيارة، وعلى ذمم أصحابها والمسؤولين عنها فهذا ما يجب علينا ان نحاربه، وأن نقف سداً دونه، لكي لا نعير بأننا قوم (ينكرون الجميل) و(يكفرون بالنعم).

عرض مقالات: