«ان تاريخ كل مجتمع الى يومنا هذا لم يكن سوى تاريخ الصراع بين الطبقات. الحر والعبد، النبيل والعامي، الإقطاعي والقن، المعلم والصانع، أي باختصار المضطهِدون والمضطهَدون، كانوا في تعارض دائم، وكانت بينهم حرب مستمرة تارة ظاهرة وتارة مستترة، حرب كانت تنتهي دائما اما بانقلاب ثوري يشمل المجتمع بأسره وأما بانهيار الطبقتين المتصارعتين معا» (البيان الشيوعي – كانون الأول 1847 – كانون الثاني 1848).

«منذ ما يقرب من أربعين عاما ، أكدنا على الصراع الطبقي باعتباره القوة الدافعة المباشرة للتاريخ ، ولا سيما الصراع الطبقي بين البرجوازية والبروليتاريا باعتباره الرافعة الكبرى للثورة الاجتماعية الحديثة ... لقد صغنا صرخة المعركة صراحة: يجب ان يكون تحرير الطبقة العاملة من صنع الطبقة العاملة بالذات». (رسالة تعميم الى أوغست بيبل وولهلم ليبكنخت وولهلم براكه وغيرهم – 17/18 ايلول 1879).

 ثامن عشر

في الوقت الذي صاغ فيه لينين حجته، في (ما العمل؟)، بضرورة أن يكون الماركسيون “منابر الشعب” كانت كل نيرانه موجهة إلى أولئك الذين قللوا من أهمية تطوير حزب ماركسي واحد وفعّال في روسيا القيصرية. ودعماً لحجته، قام بتضمين ما أعتبره اقتباسات موثوقة من مفكر الحزب الديمقراطي الإشتراكي الألماني، كارل كاوتسكي. في دراسة حديثة “إعادة أكتشاف لينين: ترجمة جديدة وتعليق على كتابه ما العمل؟” 2005، جادل لارس لي بإسهاب في أن هدف لينين كان تطوير حزب على غرار الحزب الديمقراطي الاشتراكي في ألمانيا. ولم يكن لدى لينين أدنى فكرة بأنه، بعد اثني عشر عاما، سيدين كاوتسكي باعتباره “انتهازيا” وينفصل عن الأممية الثانية بأكملها.

كان السبب المباشر للانقسام داخل القوى الماركسية وانهيار الأممية الثانية هو الموقف الذي اتخذته قيادات جميع أحزاب الأممية الثانية، تقريبا، عند اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914. لكن التوترات بين هذه القوى كانت تتصاعد منذ فترة ليست قليلة. كان من الواضح، مع حلول القرن العشرين، أن الدول الرأسمالية تمكنت، بهذا القدر أو ذاك، من استيعاب منظمات الحركة الإجتماعية، فسمحت بالانتخابات، واعترفت بالنقابات العمالية، وحتى بوجود الأحزاب السياسية اليسارية، ووسعت من حق التجمع وحرية التعبير والتظاهر والإضراب، مرفقة ذلك بتحسن ملموس لمستويات المعيشة لعموم الشعب. ولقد أرسى التطور الرأسمالي نفسه الأساس لانتشار الممارسات والأفكار والمنظمات الإصلاحية، الأمر الذي ادى الى ان تركز”الحركات العمالية” بشكل خاص على مصالحها الخاصة مثل تحسين الأجور وشروط التفاوض مع أرباب العمل الرأسماليين، الذين وافقوا على “حقهم في المشاركة في الإدارة”، وعلى الجانب السياسي الفوز بالتمثيل البرلماني. وهكذا تم تضييق “مصالح العمل” وإضفاء الطابع المؤسساتي عليها، وليصبح قادة الأحزاب الاشتراكية-الديموقراطية الرئيسية والزعماء النقابيون المتحالفون معهم من أصحاب النزعة “الدولاتية”، ودعموا التوسع الاستعماري لدولهم وشن الحرب عام 1914.

أما في المستعمرات فإن الحال مختلف حيث سمحت الدول الإمبريالية بمساحة أقل بكثير لدمج الحركة الإجتماعية بالدولة. كانت الأنظمة هناك تظهر وجهها البشع، ولهذا السبب اتخذ النضال من أجل “الحقوق” شكل مطالب من أجل “التحرر الوطني”.

 أين الماركسية من كل هذا؟

كان أحد الاحتمالات المطروحة هو ان على الماركسية أن تتكيف هي الأخرى مع الحركات الإجتماعية طالما أن الدول نفسها تكيفت معها. لهذا ظهر لنا أدوارد برنشتاين ومن معه، الذين أعلنوا أن الماركسية عفا عليها الزمن بشكل أساسي، وظهر لنا أيضا ماركسيون مثل كارل كاوتسكي طارحا نسخته من الماركسية التي سادت في الأممية الثانية، محولا أياها إلى نظرية “علمية”، حيث أصبحت الاشتراكية نتيجة حتمية، إلى حد ما، لفعل القوانين التاريخية. وأصبح الفعل السياسي خاضعا لمفهوم تأملي سلبي. وتم التقليل من أهمية تأكيدات ماركس وإنجلز الثورية. فقبلت “ماركسية الأممية الثانية” بتجزئة “الحركة الاجتماعية” وفقا لمصالح كل مجموعة، مع ارتباط اسمي بينها.

عندما صوت قادة الأحزاب، في أغسطس 1914، باسناد من القيادات النقابية، لدعم حكوماتهم في الحرب العالمية الأولى، أصبحت الخلافات الناشئة بين “اليمين” و”اليسار” انقساما سياسيا حادا تمثلت إحدى سماته في إعادة التفكير في الأسس الفلسفية للفكر الماركسي نفسه، وقد تجسدت في الممارسة السياسية وفي تفكير شخصيات مثل لوكسمبورغ ولينين وتروتسكي ولوكاش وكورش وغرامشي وآخرين، حيث تكفلوا بمهمة إعادة اكتشاف الجانب النشط للفكر الماركسي وإعادة صياغته، واضطروا إلى إيلاء اهتمام، بنظرة جديدة، للمسائل المتعلقة بالآيديولوجيا والوعي والتنظيم والممارسة السياسية. وهكذا قدموا لنا اعمالا نظرية مثيرة للاهتمام.

إن إحياء الماركسية الثورية، أو ما أطلق عليه غرامشي “فلسفة الممارسة”، يعني، اساسا، التعامل بجدية أكبر مع ما أطلق عليه ماركس “البنية الفوقية”. فبدلا من النظر اليها كونها مجرد “تأثيرات” للصراعات البنيوية الأساسية في المجتمع ، أصبحت الأسئلة حول الأشكال العملية والمثالية التي يتعامل فيها الناس مع المشكلات التي تطرحها علاقاتهم الاجتماعية ذات أهمية حيوية، أي كيفية تعامل الناس مع ما أسميه بـ “ظروف الإنتاج”. وهكذا تم تناول الحركات الإجتماعية ودور الأحزاب من وجهة نظر أكثر دقة من الناحية التحليلية.

لم تكن عملية إعادة إكتشاف الماركسية الثورية والسعي لتطوير النظرية الماركسية عملية سهلة خالية من الآلام. البداية كانت مع روزا لوكسمبورغ، التي لم تهاجم في كتيبها الصادر عام 1899، “إصلاح إجتماعي أم ثورة”، “تحريفية” برنشتاين فقط، بل أيضا الممارسات التنظيمية للحركة الألمانية. وأنعشت النقد الماركسي للنقابية العمالية لأنها تعاملت مع الأعراض وليس الأسباب. وجادلت لوكسمبورغ بأن اليمين في الحزب الألماني لم يكن في الواقع يدافع عن طريق مختلف للاشتراكية، بل من أجل هدف مختلف تماما. هنا لابد من الإشارة الى ما طرحه نورمان غيراس في كتابه “إرث روزا لوكسبورغ” 1976، من وجود ضعف جوهري في كتيبها، لأنها وهي تنتقد التحريفيين لم يكن في جعبتها عام 1899 أية مقترحات استراتيجية محددة. كانت بحاجة الى مد جسر واقعي بين برامج “الحد الأدنى والحد الأقصى” للحزب الديمقراطي الاشتراكي الألماني، ولكن لم تكن لديها مواد بناء هذا الجسر حتى جاءت ثورة عام 1905 لتوفر لها ذلك.

عرض مقالات: