يُعد كتاب «نظام التفاهة» من الكتب جد المهمة، والمُلامسة لأزماتنا المعاصرة، حيث يعتمد تشخيص الأمراض الذاتية والمجتمعية، فنجده يشير إلى ضرورة قراءة الذات موضوعياً، مُنبّهاً في ذلك إلى مرضية ما نعتبره مقبولاً في مجتمع تنخره آفة الانحرافات على مستوى العلاقات الإنسانية، ويرى آلان دنو أن سبب ذلك يعود إلى إذعان المجتمعات للمعسكر الرأسمالي، الذي أصبح يدير العالم ببراغماتية متوحشة.

لا يخفى على أحد أن عالمنا أصبح يُدار بعقلية التفاهة، ونتيجة التفاعل مع ما يُطرح اليوم في المجالات كافة، تحوَّلت الحياة من بوصلةِ رسوخٍ ويقين إنساني إلى متجرٍ كبير لابتياع بضائع السخرية بقيمة الحياة نفسها، بحجة الترفيه عن النفوس، وإيجاد متنفس يخفف من الضغط الحياتي، وثقل المسؤوليات اليومية، وفي الإذعان لذلك والقبول به نكون قد سلمنا الحياة والإنسان للهاوية.

 الثقة في المال

إن من التفاهات الحقيقية لزمننا هو وضع الثقة في المال كمُحكم في لعبة الحياة، متناسين أن لهذا المُحكم أهواء وطموحات، وأنه سيُطلق صافرته استجابةً لمصالحه الخاصة، ولا شك أن هذا المزاج هو من يُسيّر كوكبنا اليوم، ومجتمعاتنا التي باتت مسعورة بالموضة، وكأننا قد دخلنا في ماراثون الجيوب المنتفخة، ما أدى إلى زيادة الجرائم، فبات الجميع مأخوذا بالحصول على المال، وإن كان ذلك على حساب زهق الأرواح، فالمهم هو المشاركة في مونديال البذخ اليومي، والاستهلاك الموضوي.

لقد صار بإمكان الجميع أن يصلوا إلى ما يريدون بمجرد أن يجمعوا الكثير من المال، واعتماده بوصلة للوصول. لكنهم تناسوا أن في تركيزهم على ذلك سوف يُقلدون نفسهم أوسمة الوهم والتفاهة، مُتناسين أن المال نعيماً مؤقتاً، وأن الوجود يتحقق في الموهبة والأثر العلمي الماكث في ضمير الزمن. وهذا مشابه لتقديم الشكل على المحتوى من قبيل ما يعرض اليوم في شاشات التلفاز، من شخصيات فنية تُلوّح بالمظهر على حساب الموهبة الفنية، والرصيد الإبداعي لعلمها أن للتفاهة أسواقا مفتوحة على مدار اليوم، وزبائن مسعورة تجاه كل ما هو عابر.

 مأزق المجتمعات

جاء كتاب «نظام التفاهة» على أربعة فصول. تناول الفصل الأول المعرفة والخبرة بشكل مفصل وعين فاحصة، لمأزق المجتمعات في تدني نسبة التعليم، وتغول رأسمال الشركات الجامعية، وتكاسل المؤسّسة التعليمة عن اداء دورها في بناء المجتمعات وتنميتها فكرياً وإنسانياً، لما تمثل من صروح علمية مهمتها الارتقاء بالفرد، ورفع منسوب أحلامه في حياة تؤكد وجوده، لكن أن تتحول الجامعات لدكاكين ربحية، فهذا يعني أن التفاهة قد تسلّلت لمراكز القوى المجمعية (المؤسسات التعليمية)، وأن مستقبل الأجيال منفتح على المجهول.

في الفصل الثاني من الكتاب سَلَطَ آلان دنو الضوء على التجارة والتمويل، فيرى أن الاقتصاد هو الاخر إضافة لمرافق الحياة الأخرى أصيب بفيروس التفاهة، وتحول من سوق حرة إلى منازلات وحشية تُدار من قبل عقول مبرمجة ضد الممكن المعيشي، في خوارزميات من الصعب استيعابها، «ففي مثل هذا النظام تُستخدم برامج التثقيف الاقتصادية لتشتيت الناس، ومنعهم من الوصول إلى الحقيقة، وادراك الفوضى الحاصلة من حولهم، بدلاً من توعية الفرد، تهدف الى تضليله، وجعله جزءا من نظام قائم على التفاهة».

 المحتويات الهابطة

فلو أخذنا الشبكات الاجتماعية، ومواقع التواصل فيها مثل تويتر، وفيسبوك، وانستغرام، بوصفها مثالاً لما نرصده تحت عدسة آلان دنو سنجدها قد انحرفت عن مسارها الحيوي الأول كالتواصل المجتمعي ــ الثقافي، وأنها نوافذ لتبادل الآراء والأفكار، متحولةً إلى بازار للعصبيات المذهبية، والتنمرات الشخصية، وأصبحت هذه الشبكات حاضرة وذات تأثير وسطوة على مستعمليها إلى حدّ الهيمنة والإدمان، فارضةً حضورها بالسلب والإيجاب على تفاصيل حياتنا اليومية.

لكن الانتكاسة بدأت عندما أخذ المجتمع يستقبل هذا النوع من الثقافة الميتة، والتي يروم صناعها من وراء ذلك، أن يدفعوا بالمجتمع إلى «ترميز التافهين» من أصحاب المحتويات الهابطة في كافة المجالات، في تصدير متعمد لكثير من تافهي السوشيال ميديا، والفاشينستات، والعمل على تسليط ضوء عليهم، على اعتبار أنهم شخصيات ناجحة.

كي نأمن من غول التفاهة يلزمنا أن نجعل من المؤسسة التعليمية مكانا إنسانيا تستنير به الأجيال، وتتخذ منه ذخيرة روحية تدفع عنها شرور قوى الظلام التي تعمل جاهدة على أن يستفرغ الإنسان من محاولات الصمود ضد عساكر التفاهة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

“القبس” الكويتية – 11 تشرين الثاني 2023

عرض مقالات: