ولد ماركس في 1818 وهو العام الذي كان فيه عدد سكان العراق بضعة ملايين ويعيش! إحدى أحلك فتراته المظلمة تحت حكم الضباط المماليك الذين منح لهم   الباب العالي العثماني العراق عام 1747 لنجاحهم في القضاء على الانتفاضات الفلاحية التي اندلعت ضد  ظلم  الاقطاع و تسلط دولة الخلافة العثمانية حتى عام 1831 عندما قام الجيش التركي باحتلال العراق مجددا وفرض سيطرته وتصفية المماليك وإعادة المنطقة مجددا تحت سيطرة الإمبراطورية العثمانية. 

وقد ولد ماركس في عقد تميز أيضا بظلامه عندما خضعت أوروبا سياسيا لهيمنة تحالف غير مقدس بين الاقطاع والكنيسة. ولكن ما يختلف عن العراق هو أنها مثلت مرحلة انتقالية شهدت تراكم مؤشرات نمو مرحلة  التنوير الثقافية التي رافقت الانتقال التدريجي من النظام الاقطاعي الى تشكيلة اجتماعية -اقتصادية جديدة وهي الرأسمالية كمرحلة تاريخية نتيجة تطور قوى الإنتاج في اكتشاف مصدر جديدا للطاقة باستخدام الفحم الحجري لتوليد البخار. خلال هذه الفترة التاريخية حدث  في رحم النظام الاقطاعي تراكم لجزيئيات النظام الجديد حتى وصلت الى الحد الذي حدث فيه التغير النوعي على شكل هيمنة علاقات انتاج رأسمالية وبنية فوقية تنسجم معها على صعيد بناء الدولة و منظومة الأفكار والقيم السياسية والدينية والأخلاقية.

وقد ظهر أول برنامج ثوري تغييري لوضع العالم على قدميه هو الوثيقة التي كتبها ماركس وانجلس وصدرت باسم “البيان الشيوعي” في فترة تصاعد المد الثوري في أوروبا في شباط 1848 التي تضمنت أفكارا بعضها تخطتها التطورات الاجتماعية التي حدثت بشكل متسارع وأخرى كانت سابقة لعصرها مثل عولمة الرأسمال ونضالات الطبقة العاملة ودورها المجتمعي. وكان ماركس آنذاك شابا يافعا بعمر 26 سنة واصغر عمرا من الفيلسوف وعالم الرياضيات و القانوني الإنجليزي توماس هوبز (1588-1679) عندما وضع أسس للفلسفة السياسية الغربية ووضع العديد من مفاهيمها مثل حق الفرد والمساواة ومن اشهر كتبه “الليفتان”، وأيضا  من جون لوك (1632-1704) وهو طبيب وفيلسوف ووضع أسس الفلسفة السياسية الليبرالية التي ترى في الدولة حارسا على حق الفرد في امتلاك الثروة والحرية.

وقد تميز ماركس بتكامل نشاطه النظري مع رؤيته السياسية والتنظيمية التي كانت ذات بعد استراتيجي عكسها تشكيل وقيادة أول تنظيم شيوعي “رابطة الشيوعيين” الذي تأسس في لندن في الأول من حزيران 1847. وقد أصبحت المنظومة الفكرية والمنهج المادي الديالكتيكي الذي طوره ماركس مع رفيقه الصناعي الإنجليزي فردريك انجلز (1820-1895) مصدر الهام للأكاديميين وأيضا للمناضلين في كل العالم من اجل مشهد انساني جديد على أنقاض الحروب والمجاعات التي هيمنت على حياة البشر حتى يومنا هذا.

 وشهدت أكثر من مئتين سنة من مسيرة الماركسية كنظرية ومنهج وممارسة العديد من النجاحات ولكن الكثير من الأخطاء أيضا، وهي الأهم لإنها تتيح للثوريين ومن خلال التقييم النقدي لها التوصل الى استنتاجات تعزز مسيرتها لتحقيق رؤيتها الإنسانية المستقبلية. ومن ابرز ما شهدته على الصعيد التطبيقي هو ثورة أكتوبر في روسيا القيصرية في 1917 ولاحقا انهيار الاتحاد السوفيتي والاشتراكية القائمة في تسعينيات القرن الماضي نتيجة تراكم الأخطاء الفكرية والسياسية والاقتصادية وأيضا الانتقال التدريجي لجمهورية الصين الشعبية الى نهج اقتصاد السوق للتكيف مع واقع فشل تجربة التحول الى الاقتصاد الاشتراكي نظريا واقتصاديا. ولكن فكريا لم تتحقق نبوءة “نهاية التاريخ” التي أطلقها الكاتب الأمريكي اليميني المحافظ فرانسيس فوكوياما (ولد عام 1952) بل كانت بداية مرحلة نشطة من التقييم والمراجعة والعمل على تجديد الفكر الماركسي بالاعتماد على المنظومة الفكرية التي تركها ماركس والمنظرون الماركسيون الذين جاءوا بعده ومن الخبرة الثورية المتراكمة. 

وقد عصفت رياح التجديد والتغيير باليسار العربي أيضا وبرزت اتجاهات ومدارس فكرية مهمة احدها على سبيل المثال ما قدمه المثقف العضوي الشهيد الشيوعي اللبناني مهدي عامل (1936-1987) الذي اغتالته قوى الردة والظلام من اطروحات مميزة وجريئة حول الأساس المادي التاريخي لبنية المجتمعات العربية  والطبقات المهيمنة فيها اقتصاديا وسياسيا ومعرفيا ودور البرجوازية الصغيرة في صيرورة الصراع الطبقي وعن نمط الإنتاج التبعي “الكولونيالي” السائد فيها وعن دور الحزب كممارسة ثورية، وقدم نقدا لاذعا لليبرالية البرجوازية. واعتبر مهدي عامل الطائفية مثل الفاشية أحد تجليات الصراع الطبقي وأداة بيد الطبقة البرجوازية. وولدت أفكاره الجريئة جدلا ما زال مستمرا على الصعيد النظري بين من هو مؤيد ومعارض ومع ذلك ترك بصمات فكرية أضافت وعمقت ما هو مطروح فكريا بين أوساط اليسار العربي.

وشملت عمليات التقييم والمراجعة أيضا الأحزاب الشيوعية في العالم العربي. فمثلا كان للحزب الشيوعي العراقي مساهمة نشيطة بدأت مع اجتماع اللجنة المركزية في اذار 1990 وتعمقت عبر النقاشات التي سبق أن جرت في مؤتمر الديمقراطية والتجديد “المؤتمر الوطني الخامس” ( 1993) حول ضرورة تدقيق وفحص المفاهيم والمقولات الماركسية انطلاقا من الواقع الاجتماعي والاقتصادي  العراقي، وتجارب الأحزاب الشيوعية والعمالية في العالم كأحد أهم مهمات الحزب في النصال على الجبهة الفكرية والذي توج بإقرار وثيقة “خيارنا الاشتراكي: دروس من بعض التجارب ألاشتراكية “ في المؤتمر الوطني الثامن (2007).

ومع الاختلاف والتباين في طروحات واستنتاجات الأحزاب الشيوعية العربية وفي الشرق الأوسط الا انها جميعا أكدت على أهمية وراهنيه الماركسية وضرورة الانطلاق منها كمنهج لتحليل الظروف الخاصة الاقتصادية والاجتماعية لكل بلد وتطبيق منهج التحليل المادي الديالكتيكي في تدقيق الظواهر الاجتماعية والاقتصادية والتاريخية والفكرية، وهو تباين له أساس موضوعي مرتبط باختلاف البنية الطبقية  المهمات التي تواجهها مما أدى الى استمرارية النقاش والجدل   في سياق احتدام كوني للصراع الفكري حول مستقبل البشرية الذي يوحد جميع قوى اليسار من اجل بديل يتجاوز أزمات وشرور الرأسمالية وانتاجها للحروب والنزاعات.

 وفي كتابه “الماركسية وما بعد الماركسية” أشاد ثوران كيربون (ولد في 1941) وهو أستاذا لعلم الاجتماع في جامعة كمبردج في بريطانيا من أصول سويدية وأحد رموز علم الاجتماع المعاصرين المتأثر بالفكر الماركسي، بالمقاربة المادية في تحليل الظواهر الاجتماعية في تأكيدها على البعد التاريخي وإعطاء أهمية لظروف حياة الانسان العادي المادية وعلى الدور السياسي والاقتصادي للدولة وأهمية الصراع و التناقضات الطبقية  المحفزة للمزيد من البحث والتحليل والنقد.  وشبه الماركسية بالبوصلة ووضع ماركس الى جانب مفكرين عظام للإنسانية مثل افلاطون وكونفوشيوس. وان كان أيضا لا يتفق مع من ينظر الى الماركسية كمرشد للعمل وغير متأكد من صلاحيتها المستقبلية.

ولكن ستبقى الماركسية كنظرية وممارسة في حالة حركة وتطور تستمد قوتها من واقع احتدام  التناقضات الطبقية والازمات الاقتصادية الرأسمالية ورفض المليارات من البشر ظروف وبشاعة حياتهم نتيجة غياب العدالة الاجتماعية وهيمنة اشكال جديدة قاسية من العبودية والاستغلال  بسبب سيادة  الفكر اليمني النيوليبرالي  في مجالات السياسة والاقتصاد، وخاصة في البلدان التي تهيمن عليها طبقات حاكمة انتهجت أسلوب إقامة حكومات فاشلة وفاسدة كما في العالم العربي، والعراق أحدها، وبما يخدم مصالح البرجوازية الكمبرادورية والبيروقراطية.

ومن الجدير الإشارة هنا الى أن البلدان الاسيوية والافريقية وفي أمريكا اللاتينية قد شهدت خلال الثلاثين سنة الماضية تغيرات كبيرة ومهمة على صعيد البنية الطبقية الداخلية خاصة في الاختفاء التدريجي للطبقات التي سادت في المراحل ما قبل الرأسمالية وتبلور طبقات برجوازية تختلف عن مثيلاها في البلدان الصناعية مع تقلص دور البرجوازية الوطنية والفئات الوسطي. وفي الوقت ذاته قطعت هذه البلدان أشواطا مختلفة على طريق التطور الرأسمالي ولكن في ظل تباين حاد في توزيع الثروات الوطنية لصالح الأغنياء يرافقها فشل في حل المشاكل الاقتصادية الاجتماعية وأحد أسبابها تأثير الاشكال الجديدة من الاستعمار كالقروض والمساعدات المشروطة التي رافقت تطور ونمو الرأسمال المعولم والمتوحش ونهاية مرحلة ما سمي في سبعينيات القرن الماضي “الأنظمة الوطنية الديمقراطية ذات التوجه الاشتراكي”، والتي جاء اغلبها بعد تسلم ممثلي البرجوازية الصغيرة السلطة عبر انقلابات عسكرية واتبعت طرقا فاشلة للتنمية الاقتصادية الاجتماعية  ذات مضامين فكرية قومية فاشلة.

عرض مقالات: