الأزمة بدأت في الاقتصاد الحقيقي

-يشار إلى الأزمة عادةً بوصفها صدمة خارجية للرأسمالية. في المقابل يتحدث كارل ماركس عن التناقضات الداخلية والأزمة المتأصلة في الرأسمالية نفسها، فيما يشير جوزيف شومبيتر إلى «التدمير الخلاق». كيف تنظر إلى الأزمة؟

*لا شكّ أن هناك أزمات تأتي من الخارج، مثل أزمة كورونا أو حتى أزمة تغير المناخ، فعلى الرغم من أن هذه الأزمات هي من نتاج الرأسمالية، لكنها ليست داخلية وفق منطق رأس المال نفسه. لذلك كان ماركس مهتماً بالأزمات الداخلية ومصادرها. بعد العام 1971، عندما خرجت الولايات المتحدة عن معيار الذهب، أصبحت حركة رأس المال تمكنه من التدفق بسهولة في جميع أنحاء العالم. فأصبح السؤال عما هو الشكل الأساسي للقيمة. أصبح الدولار عامل الاستقرار الكبير، وباتت الولايات المتحدة تسيطر على عامل الاستقرار هذا، وتستمد من هذه الوضعية جزءاً كبيراً من قوتها، مما أدى إلى خلق كل هذه الأزمات في كل مكان، لأن الناس كانوا يخسرون المال ويقترضون الأموال.

هكذا أصبحت قوّة البنوك المركزية في الثمانينيات أكبر مما كانت عليه في الخمسينيات والستينيات. وأصبح لدينا نظام دولي تلعب فيه البنوك المركزية دوراً كبيراً ومهماً للغاية. وبالتالي، في كل مرة واجهت الرأسمالية صعوبات، قامت البنوك المركزية بخلق المزيد من النقد. لذلك إذا نظرت إلى الرسم البياني للعرض النقدي العالمي بعد العام 1980 فسوف تجده تصاعدياً، وهو ما عنى أيضاً أن الأزمة المقبلة سوف تكون أزمة مالية. لكن الغريب أننا دخلنا في العام 2008 بأزمة في قطاع الإسكان في الولايات المتحدة، وخرجنا منها في المقابل من خلال بناء المساكن في الصين. لكن كلاهما يتطلب التمويل. تمويل الرهن العقاري في الولايات المتحدة الأميركية وتمويل عمليات الاستثمار الواسعة في الصين. لذا في كلا المكانين، تجد فجأة هذه الزيادة المذهلة في الأمولة. يتحدث الجميع عن أزمة 2008 بوصفها أزمة مالية في حين يتجاهلون أنها بدأت في الاقتصاد الحقيقي في قطاع الإسكان، أما الخروج من الأزمة أو تجنبها كما في حالة الصين فقد كان أيضاً في الاقتصاد الحقيقي عبر الاستثمار في البنى التحتية وقطاع الإسكان.

يديرون عملة الاحتياط ويطبعون الدولارات بجنون

-ينتشر حديث في الولايات المتحدة وخارجها عن الدين الحكومي الأميركي، الذي بلغ 120 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. ما هي الوظائف التي يؤديها الدين؟ وكيف تستفيد الولايات المتحدة منه؟

*كانت الولايات المتحدة تعتقد أنها بانضمامها إلى لعبة النيوليبرالية سوف تحقق فوائض ضخمة، وأنها لن تكون مدينة أبداً. لقد أخطأ الأميركيون في التقدير، لذلك قاموا بتلك الانعطافة في السبعينيات والثمانينيات، وبدأوا في عولمة أسواق رأس المال. كانوا يفترضون أن قوة الاقتصاد الأميركي مستمدة من تفوق البنية الصناعية الأميركية الذي يضمن لها تقدماً وتفوّقاً كبيرين في حسابات ميزان المدفوعات الدولية وهيكليّته. لكن ذلك لم يحدث. في الستينيات، كانت صناعة السيارات احتكارية، ثم قامت الولايات المتحدة بعولمة كل شي، وبحلول الثمانينيات، أصبحت صناعة السيارات الألمانية موجودة بشكل كبير، وكذلك صناعة السيارات اليابانية والكورية.لم تتخيل الولايات المتحدة أن ذلك قد يحدث. اعتقدت أنها متفوّقة، وأن تفوقها سوف يستمر. لكنها كانت متفوقة في الستينيات فحسب بسبب الضوابط على رأس المال. لاحقاً بدأت تعاني من المشكلات فيما شركات السيارات الأوروبية واليابانية والكورية الجنوبية تعمل بشكل جيد. أعتقد أن الولايات المتحدة ارتكبت خطأ لأن مخططي السياسات العامّة في السبعينيات لم يتخيلوا أنها ستنتهي مع كل هذه الديون الضخمة. واليوم باتت هذه مشكلة كبيرة. لأنهم يديرون عملة الاحتياط ويطبعون الدولارات بجنون، وإحدى الطرق التي يمكن من خلالها خفض قيمة الديون هي حدوث تضخّم كبير. لذلك قد يكون هناك تفكير في الولايات المتحدة يقضي بترك التضخم يرتفع لأن ذلك سوف يخفض قيمة الديون.

البنية الطبقية تمنع (أحياناً) التطور الكامل لرأس المال

-دعنا ننتقل من الاقتصادات الصناعية إلى الاقتصادات والبلدان غير الصناعية بالكامل، أو لديها طبقة عاملة صناعية ضعيفة جداً، وهو أمر تترتب عنه تبعات مختلفة على العديد من المستويات. قد تسمع أحياناً أشخاصاً يتحدثون عن عدم وجود رأسمالية في هذه الاقتصادات أو أن الطريق إلى التنمية والتقدم هو «بناء الرأسمالية» من الصفر. وبالتالي لا يوجد صراع طبقي ولا يوجد قيمة زائدة يتمّ إنتاجها. ما رأيك في ذلك؟

*سوف أتعامل مع السؤال بشكل مختلف. لقد شهدنا تراجعاً كبيراً في التصنيع في الولايات المتحدة وأوروبا، وباتت الطبقة العاملة الصناعية الآن موجودة في أماكن مثل بنغلاديش والصين. كان يُعتقد - وكانت هذه الحال بالفعل - أن التصنيع يعني تركيز ثروة كبيرة. لكني لا أعتقد أن بنغلاديش، على سبيل المثال، بلد غني جداً، على الرغم من أنها بلد صناعي. لذا فإن التصنيع لا يؤدي دائماً إلى تركيز هائل للثروة كما كان عليه الحال في نظام مانشستر الذي تحدث عنه ماركس. في ظروف أخرى، تجد أن البنية الطبقية تمنع التطور الكامل لرأس المال. يتحدث كلايد وودز عن «التنمية المحبوسة»، التي نجد أمثلة عنها في كل مكان بسبب قوة ملاك الأراضي أو التجار أو أصحاب الموارد والريعيين، بشكل يمنع التطور الكامل للرأسمالية الصناعية.

خذ اليمن مثالاً، من الواضح أن البنية الطبقية، وما فيها من بنى عشائرية وقبائلية، لا تشكل عاملاً مساعداً. لذلك يجب النظر أولاً وقبل كلّ شيء، إلى طبيعة البنية الطبقية ومن ثم الانتقال إلى نوع الاقتصاد الممكن فيها. هناك الكثير من الأمثلة على التنمية المحبوسة، حتى داخل الولايات المتحدة.

مثلاً لديك بورتوريكو التي تشكل حالة واضحة عن التنمية المحبوسة، فهي حاولت القيام بالتصنيع ولكنه سرعان ما توقف بعدما أوقفت الولايات المتحدة دعمها. هناك أيضاً آثار الحروب، وهناك ما يسمى رأس المال الريعي، حيث يشكل لبنان حالة مثيرة للاهتمام لما يسمى برأس المال الريعي. لقد دُمّر البلد مرتين، وفي خلال مراحل إعادة إعماره قام الريعيون بالسطو على موارد الإعمار.

الاستحواذ على الثروة المختزنة في الأصول

-هذه مقدِّمة مثالية لسؤالي التالي. تتحدث عن مفهوم «التراكم بالتجريد» وأن الاستغلال لا يحدث في المصانع فحسب، أو حيث يتمّ إنتاج فائض القيمة والسلع، بل يحدث أيضاً في الميادين التي يتحقق فيها فائض القيمة، أي حيث يتم استهلاك السلع. يشكل لبنان مثالاً مناسباً على التراكم بالتجريد. هل يمكنك التوسّع في الحديث عن هذا المفهوم؟

*يبدو التراكم بالتجريد أكثر بروزاً في خلال الفترة النيوليبرالية، وذلك من خلال خصخصة الأصول العامة التي تتيح إمكانية أن يصبح شخص ما مُحتكراً وأن يستحوذ على فائض القيمة.

على سبيل المثال، سيطر كارلوس سليم على قطاع الاتصالات في المكسيك. يستخدم الناس الاتصالات بشكل قليل، ولكن إذا فرضت الضرائب عليها وسُعّرت بالشكل المناسب، فستحصل على القليل من كل شخص إنما باستهلاك واسع النطاق من أعداد كبيرة من المستخدمين. إنه استخراج للثروة، بكميات صغيرة، من جيوب الناس. وهذا ما يحدث في الكثير من الأماكن.

وبذلك بتنا نرى أكثر فأكثر أن مزيداً من أصحاب الملايين في العالم يصبحون من أصحاب المليارات، لأنهم يستخرجون الثروة بدلاً من صنعها.

أيضاً في الولايات المتّحدة هناك حوالي 7 أو 8 ملايين أسرة فقدت منازلها واستحوذت عليها شركة «بلاكستون» بفعل أزمة 2008، فهي استدانت من البنوك واشترت عقارات ومنازل بأقل من قيمها الفعلية وأصبحت واحدة من أكبر الشركات وأكبر ملاك العقارات في العالم.

لقد فقد السكان السود حوالي 70 في المائة أو 80 في المائة من ثرواتهم التي كانت مختزنة في منازلهم التي حصلت «بلاكستون» عليها.

إنها عملية نقل واستخراج للثروة من السكان السود المهمشين وغير الأثرياء والسكان من أصل إسباني والنساء المعيلات لأسرهن لصالح «بلاكستون».

أما البنوك التي باعت «بلاكستون» الرهون العقارية بأسعار زهيدة للغاية، فقد جاءت الحكومة وغطّت الفرق. لم تكن عملية إصلاح إنما في الحقيقة أقرب إلى الابتزاز والاحتيال. وانتهى الأمر بأن يصبح ستيفن شوارزمان واحداً من أغنى الناس في العالم في غضون عامين أو ثلاثة أعوام. هذه عملية التراكم بالتجريد.

وهي تختلف عن التراكم الأولي الذي يتعلق بخلق طبقة عاملة عن طريق تجريدها من ممتلكاتها ودفعها إلى خارج أرضها. ففي العام 2008 كان هناك طبقة عاملة مشكّلة بالفعل وتعمل بالفعل، لكن ما جرى هو الاستحواذ على الثروة المختزنة في الأصول.

نظام الائتمان ليس شكلاً طفيلياً

-يؤدِّي نظام الائتمان وظيفة محددة للرأسمالي، فهو كمن يختزل الوقت، فالرأسمالي لا يريد الانتظار في خلال الوقت الفاصل بين إنتاج فائض القيمة وبين تحققها من أجل أن يستأنف عملية الإنتاج.

أيضاً النقد هو مطلوبات على العمل المستقبلي أو الجديد، إذ يقول ماركس «كلّ رأسمالي حينما يكتسب قيمة جديدة فهو يتملّك بذلك مطالبة بالعمل المستقبلي، وعن طريق استيلائه على العمل الحالي يكون فعلياً في الوقت نفسه قد استولى على العمل المستقبلي».

يقدم لبنان مثالاً على ذلك، لا يقوم الدائنون باستخراج الثروة والاستيلاء على عمل الناس الذين يعيشون حالياً فحسب، لا بل هم يستحوذون من الآن على عمل أطفالهم وأحفادهم وعملهم المستقبلي. ما رأيك في هذا؟

*من الأمور التي أعتقد أن ماركس أوضحها بشكل جيد هو أن نظام الائتمان ليس شكلاً طفيلياً، ولو أن بإمكانه أن يتخذ أشكالاً طفيلية، إذ من الضروري لديناميكيات رأس المال أن يكون لديك نظام ائتمان يمكنه التعامل مع استثمارات رأس المال الثابت طويلة الأجل، وتمويل قطاعات الإسكان على مدى 30 عاماً.

ولذلك فإنه يلعب دوراً مهماً، وأعتقد أنه من المهم التأكيد على بعض الجوانب الإيجابية لنظام الائتمان، لأن ذلك يضفي شرعية على بعض الأمور التي تستمر.

لدى ماركس عبارة رائعة عن كيفية حدوث ذلك في باريس في الإمبراطورية الثانية حيث يصف أخوين مصرفيين في تلك المرحلة بأنهما يتمتعان بالشخصية المبهجة المتمثلة في المحتال والربح.

الربح هنا يعبر عن فكرة استشراف ما يجب أن يكون عليه العمل المستقبلي، وهذا يدعم الحجة التي قدمتها، ومن ثم تجد أن هناك مطلوبات على العمل المستقبلي لدرجة أنه بات يرزح تحت عبء مديونية عالية.

ومسألة قروض الطلاب في الولايات المتحدة هي المثال الكلاسيكي على ذلك، إذ يترتب على الناس الالتزام وقضاء السنوات العشر أو الخمس عشرة الأولى من حياتهم في سوق العمل لسداد ديونهم فقط. في بعض الأحيان يقول منظّرو رأس المال إن المصارف يجب أن تكون مرفقاً عاماً.

ولكن يتضح بعد ذلك أن المصدر الحقيقي لأرباح المصارف هو عمليات الدمج والاستحواذ.

إنهم لا يحصلون على الكثير من الأرباح من خدمات التجزئة المصرفية، بل الجزء الكبير يأتي من عمليات الدمج والاستحواذ والألاعيب المماثلة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

موقع “صفر” – العدد 4 – 14 أيار 2023

عرض مقالات: