ما معنى أن نكون اشتراكيين اليوم؟ يصيغ ديفيد هارفي جواباً كثيفاً: «يعني أن نكون مدركين تماما لجميع الطرق التي يهيمن بها رأس المال على جميع جوانب الحياة اليومية والثقافة، وأن نضغط من أجل حرية بديلة، حيث يمكننا المناقشة والتفكير بأمور مختلفة جذرياً عما يطرحه رأس المال على الطاولة».

في هذه المقابلة، يتحدث ديفيد هارفي (المفكر الماركسي الأميركي) مع موقع «صفر» عن مسائل النيوليبرالية والتحولات العالمية التي نشهدها، والأزمات الرأسمالية، والتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، والاشتراكية.

- أود البدء بمسألة كثيراً ما تُناقش الآن في العديد من المجالات. ثمة من يحاجج بأننا نشهد نهاية الحقبة النيوليبرالية، التي استمرت أربعين عاماً، وتخللها تحولات في جميع أنحاء العالم وعلى جميع المستويات؛ هناك قوى صاعدة وقوى أخرى تتراجع، ويتحدث كثيرون عن عودتنا إلى عالم متعدد الأقطاب وزمن التكتلات التجارية. كيف تقرأ المرحلة الراهنة؟

*بدأت الحقبة النيوليبرالية بأزمة في مراكز التراكم الرأسمالي آنذاك، أي في الولايات المتحدة وأوروبا. وكانت أزمة ثروة يتمّ استخراجها من الأثرياء، إذ رأينا عمليات إعادة توزيع للثروة في تلك البلدان نحو الطبقات الدنيا.

لكن في خلال سبعينيات القرن الماضي، قال الأغنياء: كفى! وغيروا سياساتهم بالكامل، وأوجدوا التبرير النظري لها، من اقتصاديات جانب العرض إلى نظرية التقشف، والتي عنت التقشف للعمال والشيوعية للأغنياء. حدث الكثير من الاضطرابات في السبعينيات، ما سمح بإجراء هذا المنعطف النيوليبرالي الذي حظي بموافقة الناس. لكن رأس المال يتحرك دائماً ويتغير على نحو دراماتيكي. ففي السبعينيات، كانت الطبقة الحاكمة في الدول الرأسمالية المتقدّمة مؤلفة من الشركات الاحتكارية الكبيرة وشركات صناعة السيّارات والصلب والمموّلين، أما الآن فلدينا أشخاص مثل جيف بيزوس أو إيلون ماس.

لكن ما يصح بشأن النيوليبرالية أنها لطالما كانت مشروعاً سياسياً لاستخراج الثروة والاستحواذ عليها وتركيزها لدى فئة الـ1 في المائة أو الـ10 في المائة الأغنى. وهذا المشروع حي ومستمر ولم ينتهِ. كل ما في الأمر أنه لم يعد يمتلك الشرعية، وهذا ما يدركه الجميع. هناك تحولات كبيرة في ديناميكيات رأس المال، وإنما هناك أمران ثابتان: أولاً، تخفيض حصة الأجور من مجمل الدخل القومي إلى مستويات أدنى وأدنى. وهذا ما يحدث بالفعل.

تستمر الأجور بالانخفاض في كل مكان في العالم تقريباً. وثانياً، إضعاف الطبقة العاملة عبر خلق وظائف محفوفة بالمخاطر وسريعة الزوال.

إذن، العالم الذي عشت فيه في العام 1960 انتهى، في السابق كان يعمل الفرد في وظيفة واحدة منذ سن الثلاثين وصولاً إلى سن الستين.

أما حالياً فيحصل على أربع أو خمس وظائف، وغالباً ما تكون محفوفة بالمخاطر، ويتعين عليه الاهتمام بحياته التقاعدية والرعاية الصحية. لقد أصبحت أوضاع العمال أكثر تقلباً.

النيوليبرالية، كما نختبرها اليوم، غيرت مواقعها. على سبيل المثال، في خلال فترة وباء كورونا، ضخ الكثير من الأموال العامة في النظام، وذهب معظمها إلى الطبقات العليا، مما أدى إلى زيادة عدد المليارديريين الذين تضاعفت ثرواتهم ثلاث وأربع مرات. لذا، فإن زيادة تركيز الثروة والسلطة في الطبقات العليا لا تزال موجودة. كل ما في الأمر أنهم يفعلون ذلك بشكل مختلف تماماً. عندما كتبت كتاباً عن النيوليبرالية في العام 2005، أشرت إلى أن النيوليبرالية لا يمكن أن تستمر من دون أن تصبح استبدادية ومعسكرة وقمعية.

وهذا ما نراه يحدث.

-بالحديث عن الأزمات، بدأت أزمة الركود في العام 2008 في «المركز»، أي في الولايات المتحدة الأميركية، ثم انتقلت إلى بلدان أخرى في أوروبا وآسيا. حالياً، نشهد ظاهرة من الأزمات المتعددة، في كثير من البلدان حول العالم: في آسيا، مثل سريلانكا ولبنان، وفي أفريقيا مثل مصر، وفي أميركا اللاتينية، فهل يزيد ذلك من احتمالية الحديث عن نوع من الربط بين هذه الأزمات؟

*من الأمور التي حصلت بعد السبعينيات هو نقل كميات كبيرة من الأموال من دول الخليج النفطية إلى البنوك الاستثمارية الأميركية، ومن ثم إلى جميع أنحاء العالم عبر إقراضها.

فتشكلت أزمة ديون في الثمانينيات.

الآن نشهد أزمة ديون مماثلة في غانا وسريلانكا والعديد من البلدان المدينة.

أزمات الديون تحصل طوال الوقت، ولكن في السابق بقيت جميعها محلية. لقد أبقتها السلطة السياسية محلية، ولذلك تمكنت الولايات المتحدة من التحدث قبل بضع سنوات عن حقبة «الاعتدال الكبير»، لأنها كانت في حالة جيّدة فيما العديد من البلدان الأخرى تمر في أزمات خطيرة وتحاول حل أزمات ديونها. عانت المكسيك من أزمة ديون لمرتين، وكذلك بلدان جنوب شرق آسيا في العام 1997، واستمرت أميركا اللاتينية في الدخول في الأزمات والخروج منها. من سمات العصر النيوليبرالي أن الأزمات كانت تنفجر باستمرار وفي كل مكان.

ما كان مميزاً في العامين 2000 و2001 هو أن الأزمة بدأت تؤثر على الولايات المتحدة حتى قبل أحداث 11 أيلول.

شهد سوق الأسهم تصحيحاً كبيراً، وانفجرت «فقاعة الدوت كوم»، وكانت أوضاع الولايات المتحدة صعبة. خرجت الولايات المتحدة من الأزمة من خلال الاستثمار في العقارات والتصنيع والطفرات العقارية. لكن في العام 2008 انهارت فقاعة السوق العقارية وتحولت إلى أزمة عالمية عن عمد. بعبارة أخرى، واجهت الولايات المتحدة أزمة، وكان من الممكن احتواؤها داخل الولايات المتحدة، لكن ما فعلته السلطات هو السماح لمصرف «ليمان براذرز» بالإفلاس مما أدى إلى عولمة الأزمة. وبدلاً من أن تعاني الولايات المتحدة وحدها كان على الجميع التضحية، فرأينا إفلاس بلديات في النرويج مثلاً، وواجهت المصارف الأوروبية مشاكل.

المكان الوحيد الذي لم تنتقل إليه أزمة 2008 كان الصين، التي استطاعت تفاديها من خلال توسّعها الخاص.

حدثت طفرة استثمارات ضخمة في الصين، سواء في البنية التحتية أو شبكات السكك الحديدية عالية السرعة أو الإسكان أو بناء المدن الجديدة. استطاعت الصين حماية بقية العالم من الإفلاس بسبب كمية الطلب التي جاءت منها. على سبيل المثال، لم تتأثر تشيلي وأستراليا بالأزمة لأنها كانت تصدر المواد الخام إلى الصين.

وهكذا شهدنا واقعاً مزودجاً؛ بالتوازي مع أزمة خطيرة في الولايات المتحدة ومحاولتها الخروج منها، غيرت الصين كل طريقة العمل وكرست نفسها كبديل عن الولايات المتحدة، وباتت الكثير من البلدان تتطلع إلى الصين، وما نشهده اليوم من محاولات حشر الصين سببه أن العديد من البلدان تتعاون معها.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

موقع “صفر” – العدد 4 - 14 أيار 2023

عرض مقالات: