توفى ماركس في عام 1883 نتيجة تدهور وضعه الصحي تاركا خلفه تراثا من النتاج الفكري تميز بغزارته وتنوعه في مجالات الفلسفة والسياسة والاقتصاد وتشريح منظومة المفاهيم الاقتصادية التي تتحكم بالبنية الداخلية  للتشكيلة الاجتماعية الاقتصادية التي تعرف بالرأسمالية، وأيضا، وهو أمر مهم جدا، في ربط الفكر بالممارسة والذي يعني المشاركة في النشاط العملي الهادف الى تغيير العالم من اجل بناء النظام الاشتراكي والشيوعي. فعلى سبيل المثال تشكلت الأممية الاولى عام 1864 كأول تنظيم أممي شيوعي على يد ماركس وانجلز. وكان (البيان الشيوعي) الذي كتبه مماركس وانجلز عام 1848 وثيقة برنامجية لهذا التنظيم، وهو الذي يبدأ بالعبارة الشهيرة التي ازعجت منظري البرجوازية وسياسييها “هناك شبح ينتاب أوروبا، أنه شبح الشيوعية والذي ضده اتحدت كل قوى أوروبا القديمة في حلف مقدس”. وقد استمر هذا التحالف غير المقدس ضد الشيوعية واليسار الى يومنا هذا وفي جميع بلدان المعمورة حفاظا على امتيازاتهم وسلطتهم والفساد الإداري والمالي.

لقد كان النتاج النظري لماركس وانجلز في حياتهما وبعدها مثارا للجدل خاصة وأن عددا من كتابات ماركس مثل (مخطوطات 1844) و(الغوندريسة) قد   نشرت لأول مرة بعد عقود من وفاته، لذا ليس غريبا ان ينعكس ذلك ويتجلى في  الاشكال المتعددة من “الماركسيات” والتي ه  انعكاس للصراع الفكري في داخل الحركة الشيوعية والعمالية واليسارية حول واقع ومستقبل الاشتراكية في كل بلد وفي العالم. وتعمق هذا الصراع بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وتحول الاتحاد السوفيتي الى قوة دولية عظمى في مواجهة النظام الرأسمالي العالمي الذي قادته الولايات المتحدة الامريكية خلال سنوات الحرب الباردة، حيث اصبح الصراع الفكري والإعلامي أحد تجلياته البارزة والتي جندت ولعقود مفكرين واعلاميين في ميادين الفكر والادب والثقافة للحد من التمدد السوفيتي واستنزاف قدراته. ومازال مستمرا حتى بعد انهيار الاتحاد السوفيتي.

من هذه الماركسيات مثلا مفهوم  الماركسية الكلاسيكية والتي يقصد بها مجمل ما قدمه ماركس (1818-1883 ) وانجلز(1820-1895) من افكار وقراءات فلسفية واقتصادية واجتماعية وثقافية في القرن التاسع عشر. وقد تناول ماركس في ما كتبه ظواهر مثل الاغتراب وأسلوب الإنتاج الرأسمالي والمادية التاريخية ودور وتأثير الصراع الطبقي في المسار التطوري للتاريخ والتي لخصها “ البيان الشيوعي”من كل تاريخ المجتمعات في العالم هو تجليات للصراع الطبقي”. وقد تأثر ماركس بالمدارس الفلسفية والاقتصادية والاشتراكية والأنثروبولوجية السائدة آنذاك، وانعكست في مؤلفاته العديدة. كما وشن ماركس نضالا فكريا جادا ضد الاتجاهات الفوضوية التي كان لها تأثير في أوساط الحركة العمالية في فترة الاممية الاولى أنداك. وتأثر أيضا بكتابات رفيقه انجلز، وشكلا رفقة فكرية ونضالية متميزة وخصبة. وقد كتب انجلز كتابه الشهير حول “أحوال الطبقة العاملة في إنكلترا” عام 1844 وأيضا عددا من الكتب والمقالات في مجالات السياسة والفلسفة. ومن الموضوعات الفكرية لهذه المرحلة مثلا مفاهيم الاغتراب والتشيوء والتي اعتبرها نتاج المجتمع الرأسمالي وأيضا قراءات في طبيعة الانسان، وحول ديناميكية العلاقة الجدلية بين البنية التحتية والفوقية في أنماط الإنتاج، وشرح لطبيعة العلاقات الإنسانية التي يدخل فيها البشر خلال عملية انتاج السلع وأيضا طرح مفهوم الاشتراكية العلمية على خلاف الاشتراكية الطوباوية التي كان لها ممثلوها في القرن الثامن عشر. ومن الاسهامات الهامة أيضا تشريح التكوينة الطبقية للمجتمعات، معنى الطبقات ودورها في الصراع الاجتماعي، واهمية الوعي الطبقي، كي تستطيع الطبقات الصاعدة ان تؤدي أدوارها التاريخية. ورأى ماركس ان الاستغلال الطبقي هو خاصية تلازم جميع المجتمعات الطبقية والرأسمالية بشكل خاص. وفي ميدان الاقتصاد السياسي جرت دراسة الظروف التي تتم في داخلها عملية انتاج الخيرات المادية وخاصة النشاط الإنساني في عمليات الانتاج والتوزيع. وهناك شبه اتفاق على ان الجهد الأكبر الذي بذله ماركس هو في تحليل المجتمع الرأسمالي من كافة جوانبه والذي مازال سائدا لغاية القرن الحادي والعشرين في كتابه (رأس المال). وتتوفر عدة ترجمات عربية له.

والمصطلح الاخر هو الماركسية الأرثوذكسية والتي أصبحت تطلق على الكتابات التي كان هدفها توضيح ما أعتبر غامضا في نتاجات ماركس الفكرية والاقتصادية في مرحلة الأممية الثانية ولغاية نهايتها (1889- 1916) وبهدف الترويج لها في الوسط اليساري الأوربي خاصة في قضايا فلسفية كالمادية الديالكتيكية والتاريخية. ومن ابرز رموزها الألماني كارل  كاوتسكي( 1854-1938)  و الروسي جورجي بليخانوف (1856-1918) اللذين اهتم القائد الثوري الروسي  فلاديمير اليتش اوليانوف الشهير باسم لينين (1870-1924) بدراسة اعمالهما ونقدها بشكل حاد. ويعتبر ما عرف باللينينية كونه الشكل الروسي للماركسية الأرثوذكسية. وحيث تم النظر الى الماركسية كعلم شامل قادر على تحليل

و تفسير كافة الظواهر الاقتصادية والاجتماعية والطبيعية. وركزت على شرح وتطوير المفاهيم الفلسفية، وأيضا ديالكتيك البنية التحتية والفوقية. أما في واقع الامر فقد عرفت الماركسية تنوعا في الطرح الفكري كما حدث مثلا في فترة السنوات العشر الأولى بعد انتصار ثورة اكتوبر. اما منظرو هذه المدرسة فيعتبرون المرحلة التي عرفت بالستالينية الممثل للفكر الماركسي في سياق نظريات حول الأنظمة الشمولية. وعقدت مقاربات سطحية حول التماثل بين النظام الاشتراكي والنظم الفاشية وقد ظهرت في نتاجات كتاب السبعينات

و الثمانينيات من القرن الماضي في أوج الحرب الباردة.

ومن المفاهيم الأخرى التي سادت في الاعلام وكتابات بعض النخب الثقافية هو ما سمي “الماركسية المبتذلة” والذي اطلق على الاتجاه الذي ينفي مصداقية التطور والارتقاء على صعيد التطور التاريخي المجتمعي وحتمية تناقضات النظام الرأسمالي وانهياره التي تؤدي الى انبثاق النظام الاشتراكي أو رفض دور الوعي الزائف في إعاقة تطور النشاط الاجتماعي الثوري، وأيضا في رفض أولوية النضال السياسي وعلاقته بالنضال الاقتصادي المطلبي. والملاحظ ان جميع هذه المفاهيم ذات علاقة نظرية مباشرة بمتطلبات تغيير المجتمع ثوريا تجاه الأفق الاشتراكي.

وهناك مصطلح أخر  شاع  بعد  عشرينيات القرن الماضي والذي نشط في فترة تم توصيفها انفتاح الفكر الماركسي الكلاسيكي على الأنشطة الثقافية الأخرى في مجالات علم الاجتماع والادب والفن والتحليل النفسي. ومن ابرز رموز هذا الاتجاه المفكر جورج لوكاتش (1985-1971) وهو كاتب وناقد وزير للثقافة بعد احداث 1956 في المجر. وكان مفكرا شيوعيا حظى بشعبية واسعة في الأوساط الثقافية الأوروبية في ستينات القرن الماضي، وعرف بتصديه للمقاربة الستالينية للماركسية وأيضا مقالاته حول الرواية والادب. وقد نشر مقالة في 1919 بعنوان “ماذا تعني الماركسية الأرثوذكسية” وهي جزء من كتابة المعروف “التاريخ والوعي الطبقي” نظر فيها الى الماركسية لا ككتابات مقدسة بل يجب اخضاعها للنقد والتحليل. وأشار أيضا الى عدم  وجود اتفاق حول ماذا تعني الماركسية ومن هو الماركسي بالتحديد. وقد منعت عضويته في الحزب الشيوعي المجري (عدا المشاركة في بعض الورشات الفكرية ) في مدرسة فرانكفورت للبحوث الاجتماعية، وهي المدرسة النقدية  التي تأسست في 1923 في المانيا، وتأثرت بالفكر الماركسي في سنواتها الأولى الا انها كانت خارج تنظيم الاممية الثانية ويطلق احيانا على توجهاتها الفكرية “الماركسية الغربية” تمييزا لها عن الماركسية الروسية. وجاء التأثير الماركسي بفعل دور مديرها الأول كارل كوتنبرغ وممولها  فيلكس فيل (1898-1975) وهو في حقيقته التأثر باتجاهاتها المتصارعة في بدايات القرن الماضي. لا ان ذلك تبدل  بعد أن تبوأ ماكس هوكهايمر(1895-1973) منصب المدير وادورنو (1903-  1969) منصب نائبه. وبسبب الاضطهاد الفاشي في سنوات هتلر وكون اغلبية رموزها من مثقفين ذوي اصول يهودية انتقل المعهد الى جامعة كولومبيا حتى 1949 ثم عاد الى فرانكفورت. وقد حظت هذه الافكار بشعبية في الستينات وخاصة في فترة الانتفاضات الشبابية في أوروبا، وداخل ما سمي بحركة اليسار الجديد، حيث برز اسم هربرت ماركوزه (1898-1979).

كما تجلت الخصوصيات المناطقية، فمثلا في أمريكا شاع مصطلح الماركسية السوداء والتي سعت الى تطبيق الأفكار الماركسية على الاضطهاد العنصري، وفي يوغوسلافيا تيار الماركسية التطبيقية، وفي فرنسا البنيوية في اعمال ألتوسير(1981-1990)،  في بريطانيا برز اتجاه الماركسية والنسوية ومدارس عديدة أخرى بمسميات مختلفة كالتحليلية والإنسانية والمنفتحة. كما ظهرت في اسبانيا “الشيوعية الأوروبية”.

السائد في هذه الاتجاهات الفكرية هو النخبوية لأنها انتشرت في أوساط المثقفين والاكاديميين ومعاهد الأبحاث الغربية، ولم يكن لها تأثير ملموس في الاحداث السياسية وانشطة اليسار الجماهيرية، ماعدا أوروبا في نهاية الستينيات نتيجة الازمة المجتمعية والاقتصادية العميقة، حيث تبنت أوساط من الحركات الشبابية   أطروحات ماركوز التي كانت تروج لها أجهزة الاعلام الرسمية. وقد فشلت بسبب عدم وجود رؤية واقعية عملية للتغيير وخلوها من الأدوات التنظيمية الضرورية لتحقيق ذلك. والملاحظ ايضا ان قائمة التوصيفات الماركسية طويلة. فمثلا ضمت الماركسية السوفيتية او التروتسكية والكثير غيرها. وكانت اطروحات هذه المدارس يلغي بعضها الاخر.

ومع الاتفاق التام على ان الماركسية بعد ماركس لم تتكامل، وان كل شيء في تغير وتحول، وان مناهج دراسة العلوم الطبيعية والاجتماعية أيضا في تطور مستمر ارتباطا بالقفزات السريعة التي رافقت تطور العلوم والمعارف المادية والثورة العلمية والرقمية. فالمنظور الجدلي يتبنى ويتفاعل مع هذه الظواهر والمتغيرات. وينظر الى الماركسية كمنهج لتحليل الظواهر الطبيعية والاجتماعية والى تطور الفكر الماركسي كعملية مستمرة وصيرورة تغتني من معارف وعلوم القرن الحادي والعشرين بشرط ان تبتعد عن النخبوية وان ترتبط بالنضال السياسي والاقتصادي والفكري من اجل تغيير المجتمعات ثوريا وبأفق اشتراكي.

عرض مقالات: