معروف أن هذا الخيار المشؤوم قد نظّر له، بواسطة جملة حجج، كل من أنطونيو نيغري وجون هولوواي، وهما يدعوان على التوالي إلى قوة «الجموع» و«تغيير العالم من دون تسلّم السلطة». يرى أمير صادر أنه لا يمكن بناء «العالم الآخر الممكن» بواسطة الحركات الاجتماعية وحدها، والحال أن ذاك العالم قيد البناء الآن بواسطة الحكومات التقدمية المعادية لليبرالية في بوليفيا والإكوادور وفنزويلا.

إن نقد صادر لخطاب «الاستقلال الذاتي» المعادي للسياسة له ما يبرره، لكني أسجل عليه بعض التحفظات. في كثير من الحالات، كان لموقف الاستقلال الذاتي للحركات الاجتماعية — مثل «حركة البدون أرض» — تجاه الحكومات اليسارية، إلى هذا الحد أو ذاك، وجهٌ بالغ الإيجابية. فعندما تفقد الحركات الاجتماعية استقلالها الذاتي وتصير تابعة للحكومة — كما في حال «اتحاد النقابات» البرازيلي — يشكل ذلك انتكاسة خطيرة. ثانيا، لم يكن الموقف الغالب لـ«حركة البدون أرض» معاديا للحكومات التقدمية — إذ دعت أكثر من مرة موراليس وتشافيز للخطابة في مهرجاناتها. وإنني أرى أن لـ«حركة البدون أرض» والحكومات التقدمية مهمات متباينة ولا يمكن استبدال الواحدة منهما بالأخرى. وفيما يشدد صادر على أهمية الجبهة المشتركة التي شكلتها كل حكومات أميركا اللاتينية اليسارية، أو ذات اتجاه يسار الوسط، ضد اقتراحات التجارة الحرة التي تقدمت بها الولايات المتحدة الأميركية، إلا أنه يميز بين تلك الحكومات التي اتخذت خطوات جادة نحو القطيعة مع النموذج النيوليبرالي وتلك التي تمثل الاستراتيجية الجديدة لما بعد النيوليبرالية: بوليفيا، فنزويلا، والإكوادور. وقد شكلت تلك الحكومات، جنبا إلى جنب مع كوبا، «التحالف البوليفي لعموم أميركا» الذي انضمت إليه بعض دول البحر الكاريبي وأميركا الوسطى، في مواجهة  منطقة التجارة الحرة لعموم أميركا» وهو التحالف المكرس للنضال ضد الهيمنة الأميركية خارجيا والعمل داخليا على إعادة بناء الدولة بتعزيز المجال العام على حساب المجال الخاص، والقطع مع السياسات الاقتصادية النيوليبرالية وتأسيس أشكال جديدة للسلطة الشعبية.

أبرز الأمثلة على تلك الدول بوليفيا، حيث أسست الحركات الاجتماعية وحركات السكان الأصليين حزبَها المستقل — «حركة الاتجاه نحو الاشتراكية» — بمساعدة مجموعة من المثقفين الماركسيين، مثل مجموعة «لا كومونا» المتحلقة حول ألفارو غارسيا لينيرا، واختارت فلاحا من أبناء السكان الأصليين، إيفو موراليس، مرشحا للانتخابات الرئاسية، وقد فاز في انتخابات العام ٢٠٠٥، مع غارسيا لينيرا نائبا له. وعندما جوبه موراليس ورفاقه بهجوم رجعي عنيف — مدعوم بالإمبريالية الأميركية — خاضوا «حرب مواقع»، على طريقة غرامشي، أي معركة حول الدستور الجديد انتهت إلى انتصار الحكومة اليسارية في استفتاء العام ٢٠٠٩.

في هذه النظرة الشاملة لنضال بوليفيا، يستوحي صادر تحليلات غارسيا لينيرا الماركسية لتقديم صورة مقنعة عمّا يسميه «المراحل المختلفة للمعركة من أجل الهيمنة». ومن أسف أن الكتاب لا يبلور نقاشا مماثلا للمسارات الشبيهة المعقدة والمتناقضة في فنزويلا والإكوادور. تتباين هاتان الحالتان مع حالة بوليفيا، حيث نلاحظ الجدلية القائمة بين سياسات موراليس والضغوط الآتية «من تحت». أما في فنزويلا، فالراجح أن تصدر المبادرات من تشافيز، بطريقة تذكّر بأشكال سابقة من الشعبوية الأميركية اللاتينية، أو من نزعة الزعيم الأوحد فيها. والفرق، أن تشافير يتحدث باستمرار عن الاشتراكية والصراع الطبقي والثورة، وهو ما لم يفعله بيرون قط. وهكذا تبقى الحركات الاجتماعية في موقع تبعية بالنسبة لـ«قصر ميرافلوريس» [الرئاسي]. تمثل الإكوادور نسقا مختلفا: لم يُنتخب كورّيا بدعم من حركة السكان الأصليين، إنما بدعم من تحالف بين المجتمع المدني ومجموعات سياسية يسارية. وقد طبق إجراءات تقدمية ولكن بطريقة سلطوية إلى حد ما. والحصيلة صدام مستمر مع حركة السكان الأصليين التي ارتكبت بدورها عددا من الأخطاء الفادحة، ما خلق حالة توتر تضعف المسار المعارض للنيوليبرالية.

ومع أن صادر يعتبر بوليفيا وفنزويلا والإكوادور، مع كوبا، التعبيرات الأكثر تقدما عن استراتيجية بَعد نيوليبرالية الجديدة، يضيف ملاحظة جادة تقول إنه في ظل الوضع الدولي المتراجع الحالي ليس لتلك الحكومات من حلفاء استراتيجيين خارج أميركا اللاتينية وأنها لم تتمكن من أن تسلك طريق التطور المعارض للرأسمالية، بل إنها تتعايش مع رأس المال الخاص، الذي يحتفظ بوجود قوي. وهذا ما يفسر الهجوم المضاد الذي تشنه القوى الرجعية في البلدان الثلاثة مستخدمة سلطتها الاقتصادية والإعلامية لإثارة القضايا التي تجذب الرأي العام المحافظ: العنف، التضخم المالي، «الأمن» وغيرها.

وما يحيّر أن صادر ليس يناقش واحدة من أبرز سمات تلك الحكومات: التزامها ببديل بعد رأسمالي لـ«اشتراكية القرن الواحد والعشرين». وللمصطلح الأخير عدة وظائف بلاغية. فهو يتمايز أولا عن كل من الليبرالية الاجتماعية والشعبوية في تاريخ أميركا اللاتينية. ثانيا، يرمي من وراء الإشارة الزمنية تلك إلى الإيحاء بوجود مسافة نقدية مع التجارب التي طغت في القرن العشرين: الاشتراكية الديموقراطية، التي فشلت لأنها لم تسع مرة إلى النضال ضد الرأسمالية، وضد «الاشتراكية المتحققة»، التي ما لبثت أن انهارت لأنها افتقدت الحد الأدنى من القاعدة الديموقراطية. ثالثا، يشير مصطلح «اشتراكية القرن الواحد والعشرين» إلى أن العدو ليس النيوليبرالية وإنما النظام الرأسمالي بالذات. بالطبع، لا تزال دول الحلف البوليفاري بعيدة كل البعد عن القطع مع الرأسمالية، لكن مجرد وضعها الاشتراكية على جدول الأعمال، لأول مرة منذ انهيار ما يسمى «المعسكر الاشتراكي»، خطوة تقدمية تستحق أن نسجلها. وقد يعترض معترض بأن الأمر لا يعدو كونه خطابا سياسيا، إلا أن الخطب هي أيضا جزء من الواقع ما دامت تولّد التوقعات وتؤسس لقيَم.

يختم صادر ببعض التأملات في مصائر الموجة الأميركية المعارضة للنيوليبرالية ملاحظا نجاحاتها النسبية ومشيرا إلى مستقبلها غير المضمون. يقدم صورة صاحية للقارة الأميركية اللاتينية بأكملها تختبر، عند مطلع القرن الجديد، أزمة هيمنة مترامية الأبعاد، حيث يحاول القديم التشبث بالبقاء والجديد يجد صعوبات في الحلول محله. إن الظروف الموضوعية لتهالك النموذج النيوليبرالي قائمة، لكن بلدانا مثل البرازيل والأرجنتين وأوروغواي، التي حافظت على النموذج مع جعله أكثر مرونة — من خلال تأمين استمراره في السياسة النقدية، وإن يكن ليس في السياسة الاقتصادية — قد تمكن كل منها، بطريقته الخاصة، من استئناف دورات التوسع الاقتصادي، وهو ما عجزت عنه حكومات سابقة، طبقت النموذج بطريقة صارمة.

إن المكسيك التي لا تزال تلتزم النموذج الصارم لم تتمكن من التقدم اقتصاديا، فيما تشيلي — وهي حالة مثالية لتطبيق النموذج النيوليبرالي — شهدت نهاية حكومات «التوافق».

يؤكد صادر أن الطريقة التي ستخرج بها المنطقة من أزمة مهيمنة تعتمد على «الاتجاه الذي تحدده الصراعات الاجتماعية والسياسية والأيديولوجية». ويشدد على أنه كائنا ما كانت التناقضات والحدود، فإن مسارات «البوليفارية» الجديدة والجذرية باتت نقطة مرجعية للنقاشات حول البدائل عن النيوليبرالية، لا في أميركا اللاتينية وحسب إنما على الصعيد العالمي أيضا. لجميع الذين ما عادوا يرون في النيوليبرالية أو النظام الرأسمالي «نهاية التاريخ»، سيكون هذا الكتاب ذا أهمية كبيرة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* عالم اجتماع وفيلسوف ماركسي فرنسي- برازيلي

مجلة «بدايات» – العدد 34 – 2022

عرض مقالات: